للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا يَقْتَضِي بِصَرِيحِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ مَا قَالُوهُ. وَلِذَلِكَ جَعَلَ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَنَّ اعْتِقَادَ قَائِلِيهِ يَمْنَعُ مِنْ إِيمَانِهِمْ بِضِدِّهِ وَنُطْقَهُمْ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ يَمْنَعُ مَنْ يَسْمَعُونَهُمْ مِنْ مُتَّبِعِي دِينِهِمْ.

وَإِلْقَاءُ هَذَا الْكَلَامِ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ وَأَدَاةِ الْعُمُومِ جَعَلَهُ تَذْيِيلًا لِمَا مَضَى مِنْ حِكَايَةِ تَفَنُّنِهِمْ فِي أَسَالِيبِ التَّكْذِيبِ وَالتَّهَكُّمِ.

فَالظَّاهِرُ حَمْلُ التَّعْرِيفِ فِي النَّاسَ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ. أَيْ مَا مَنَعَ جَمِيعَ النَّاسِ أَنْ

يُؤْمِنُوا إِلَّا ذَلِكَ التَّوَهُّمُ الْبَاطِلُ لِأَنَّ اللَّهَ حَكَى مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا فَقَالَ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ نُوحٍ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٤] . وَحُكِيَ مِثْلُهُ عَنْ هُودٍ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٣- ٣٤] ، وَعَنْ قَوْمِ صَالِحٍ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [سُورَة الشُّعَرَاء: ١٥٤] ، وَعَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [الشُّعَرَاء: ١٨٦] ، وَحُكِيَ عَنْ قوم فِرْعَوْن فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا

[الْمُؤْمِنُونَ: ٤٧] . وَقَالَ فِي قوم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق: ٢] .

وَإِذ شَمِلَ الْعُمُومُ كَفَّارَ قُرَيْشٍ أَمَرَ الرَّسُولُ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ الْآيَةَ، فَاخْتَصَّ اللَّهُ رَسُوله مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاجْتِثَاثِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ أَصْلِهَا اخْتِصَاصًا لَمْ يُلَقِّنْهُ مَنْ سَبَقَ مِنَ الرُّسُلِ، فَإِنَّهُمْ تَلَقَّوْا تِلْكَ الشُّبْهَةَ بِاسْتِنْصَارِ اللَّهِ تَعَالَى على أقوامهم فَقَالَ عَنْ نُوحٍ قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ١١٨] .