للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مُسْتَعْمل فِي التَّعَجُّب وَالْإِنْكَارِ، وَلَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لِأَنَّ الصَّاحِبَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ مُشْرِكٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لَهُ: وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً. فَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا الْإِشْرَاكُ الَّذِي مِنْ جُمْلَةِ مُعْتَقَدَاتِهِ إِنْكَارُ الْبَعْثِ، وَلِذَلِكَ عُرِفَ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِأَنَّ مَضْمُونَ الصِّلَةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصْرِفَ مَنْ يُدْرِكُهُ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِهِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ النَّاسَ فَمَا كَانَ غَيْرُ اللَّهِ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ.

ثُمَّ إِنَّ الْعِلْمَ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصْرِفَ الْإِنْسَانَ عَنْ إِنْكَارِ الْخَلْقِ الثَّانِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: ١٥] ، وَقَالَ:

وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: ٢٧] ، فَكَانَ مَضْمُونُ الصِّلَةِ تَعْرِيضًا بِجَهْلِ الْمُخَاطَبِ.

وَقَوْلُهُ: مِنْ تُرابٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَجْزَاءِ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْهَا النُّطْفَةُ وَهِيَ أَجْزَاءُ الْأَغْذِيَةِ الْمُسْتَخْلَصَةِ مِنْ تُرَابِ الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ [يس: ٣٦] .

وَالنُّطْفَةُ: مَاءُ الرَّجُلِ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّطْفِ وَهُوَ السَّيَلَانُ. وسَوَّاكَ عَدَلَ خَلْقَكَ، أَيْ جَعَلَهُ مُتَنَاسِبًا فِي الشَّكْلِ وَالْعَمَلِ.

وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي

كُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ بِأَلْفٍ بَعْدِ النُّونِ. وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ الْعَشَرَةُ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَلْفِ فِي النُّطْقِ فِي حَالِ الْوَقْفِ، وَأَمَّا فِي حَالِ الْوَصْلِ فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِدُونِ نُطْقٍ بِالْأَلْفِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِإِثْبَاتِ النُّطْقِ بِالْأَلْفِ فِي حَالِ الْوَصْلِ، وَرَسْمُ الْمُصْحَفِ يَسْمَحُ بِكِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ.

وَلَفْظُ لكِنَّا مُرَكَّبٌ مِنْ (لَكِنْ) بِسُكُونِ النُّونِ الَّذِي هُوَ حَرْفُ اسْتِدْرَاكٍ، وَمِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ (أَنَا) . وَأَصْلُهُ: لَكِنْ أَنَا، فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ، أَيْ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لَا لِعِلَّةٍ تَصْرِيفِيَّةٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْهَمْزَةِ حُكْمُ