للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَدْرَ الْفَضَائِلِ النَّفْسِيَّةِ وَنِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ. وَرُبَّمَا كَانَ قَوْلُهُ: اهْبِطُوا دُونَ لِنَهْبِطْ مُؤْذِنًا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ إِدْخَالَ نَفْسِهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَهَذَا يُذَكِّرُ بِقَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ:

فَإِنْ كَانَ أَعْجَبَكُمْ عَامَكُمْ ... فَعُودُوا إِلَى حِمْصَ فِي الْقَابِلِ

وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ عطفت جملَة فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ عَلَى جُمْلَةِ اهْبِطُوا لِلدِّلَالَةِ عَلَى حُصُولِ سُؤْلِهِمْ بِمُجَرَّدِ هُبُوطِهِمْ مِصْرَ أَوْ لَيْسَتْ مُفِيدَةً لِلتَّعْلِيلِ إِذْ لَيْسَ الْأَمْرُ بِالْهُبُوطِ بِمُحْتَاجٍ إِلَى التَّعْلِيلِ بِمِثْلِ مَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِظُهُورِ الْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَقَامِ تَرْغِيبٍ فِي هَذَا الْهُبُوطِ حَتَّى يُشَجِّعَ الْمَأْمُورَ بِتَعْلِيلِ الْأَمْرِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَدَمَ إِرَادَةِ التَّعْلِيلِ هُوَ الدَّاعِي إِلَى ذِكْرِ فَاءِ التَّعْقِيبِ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ التَّعْلِيلُ لَكَانَتْ إِنَّ مُغْنِيَةً غَنَاءَ الْفَاءِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ وَالْفَصْلِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ فُصُولٍ شَتَّى فِي النَّظْمِ إِذْ يَقُولُ:

وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ شَأْنِ إِنَّ إِذَا جَاءَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْه أَي الَّذِي فِي قَوْلِ بَشَّارٍ:

بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجِيرِ ... إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ

أَنْ تُغْنِيَ غَنَاءَ الْفَاءِ الْعَاطِفَةِ مَثَلًا وَأَنْ تُفِيدَ مِنْ رَبْطِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَمْرًا عَجِيبًا فَأَنْتَ تَرَى الْكَلَامَ بِهَا مُسْتَأْنَفًا غَيْرَ مُسْتَأْنَفٍ مَقْطُوعًا مَوْصُولًا مَعًا- وَقَالَ- إِنَّكَ تَرَى الْجُمْلَةَ إِذَا دَخَلَتْ إِنَّ تَرْتَبِطُ بِمَا قَبِلَهَا وَتَأْتَلِفُ مَعَهُ حَتَّى كَأَنَّ الْكَلَامَيْنِ أُفْرِغَا إِفْرَاغًا وَاحِدًا حَتَّى إِذَا أُسْقِطَتْ إِنَّ رَأَيْتَ الثَّانِيَ مِنْهُمَا قَدْ نَبَا عَنِ الْأَوَّلِ وَتَجَافَى مَعْنَاهُ عَنْ مَعْنَاهُ حَتَّى تَجِيءَ بِالْفَاءِ فَتَقُولُ مَثَلًا:

بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قبل الهجير ... إِن ذَاك النجاح فِي التَّبْكِيرِ

ثُمَّ لَا تَرَى الْفَاءَ تُعِيدُ الْجُمْلَتَيْنِ إِلَى مَا كَانَتَا عَلَيْهِ مِنَ الْأُلْفَةِ وَهَذَا الضَّرْبُ كَثِيرٌ فِي

التَّنْزِيلِ جِدًّا مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الْحَج: ١] وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لُقْمَان: ١٧] وَقَالَ: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التَّوْبَة: ١٠٣] إِلَخْ. فَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَنَّ وُجُودَ إِنَّ فِي الْجُمْلَةِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا التَّعْلِيلُ وَالرَّبْطُ مُغْنٍ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْفَاءِ، وَأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْفَاءِ حِينَئِذٍ لَا يُنَاسِبُ الْكَلَامَ الْبَلِيغَ إِذْ هُوَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ عَنْهُ فَإِذَا وَجَدْنَا الْفَاءَ مَعَ إِنَّ عَلِمْنَا أَنَّ الْفَاءَ لِمُجَرَّدِ الْعَطْفِ وَإِنَّ لِإِرَادَةِ التَّعْلِيلِ وَالرَّبْطِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ بِأَكْثَرَ مِنْ مَعْنَى التَّعْقِيبِ. وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَوَاقِعَ التَّعْلِيلِ هِيَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا مَعْنَاهُ بَيْنَ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ كَالْأَمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا.