للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مَعَ مَنْ يُرِيدُ مُجَادَلَتَهَا، فَعَلَّمَهَا أَنْ تَنْذُرَ صَوْمًا يُقَارِنُهُ انْقِطَاعٌ عَنِ الْكَلَامِ، فَتَكُونَ فِي عِبَادَةٍ وَتَسْتَرِيحَ مِنْ سُؤَالِ السَّائِلِينَ وَمُجَادَلَةِ الْجَهَلَةِ.

وَكَانَ الِانْقِطَاعُ عَنِ الْكَلَامِ مِنْ ضُرُوبِ الْعِبَادَةِ فِي بَعْضِ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ، وَقَدِ اقْتَبَسَهُ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْمَرْأَةِ مِنْ أَحْمَسَ الَّتِي حَجَّتْ مُصْمَتَةً. وَنُسِخَ فِي شَرِيعَة الْإِسْلَام بِالسنةِ،

فَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ:

مَا بَالُ هَذَا؟ فَقَالُوا: نَذَرَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ وَلَا يَسْتَظِلَّ مِنَ الشَّمْسِ وَلَا يَجْلِسَ وَيَصُومَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلِيَسْتَظِلَّ وَلِيَجْلِسْ وَلِيُتِمَّ صِيَامَهُ»

وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ يُدْعَى أَبَا إِسْرَائِيلَ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةٍ قَدْ نَذَرَتْ أَنْ لَا تَتَكَلَّمَ، فَقَالَ لَهَا: «إِنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ هَدَمَ هَذَا فَتَكَلِّمِي» . وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَحْمَسَ حَجَّتْ مُصْمِتَةً، أَيْ لَا تَتَكَلَّمُ. فَالصَّمْتُ كَانَ عِبَادَةً فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَلَيْسَ هُوَ بِشَرْعٍ لَنَا لِأَنَّهُ نَسَخَهُ الْإِسْلَامُ

بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ»

، وَعَمَلِ أَصْحَابِهِ.

وَقَدْ دَلَّتِ الْآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي هَذِهِ عَلَى أَشْيَاءَ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوجِبِ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ فِي مِثْلِ هَذَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ قُرْبَةٍ.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِكَفَّارَةٍ شَأْنَ النَّذْرِ الَّذِي يَتَعَذَّرُ الْوَفَاءُ بِهِ أَوِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ لَهُ عَمَلٌ مُعَيَّنٌ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ نَذْرٌ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَقِبَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ