للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لِإِيثَارِ التَّنْكِيرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ غَيْرُ إِرَادَةِ التَّعْظِيمِ وَإِلَّا لَقِيلَ: إِلَّا لِنَرْحَمَ الْعَالَمِينَ، أَوْ إِلَّا أَنَّكَ الرَّحْمَةُ لِلْعَالَمِينَ. وَلَيْسَ التَّنْكِيرُ لِلْإِفْرَادِ قَطْعًا لِظُهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الرَّحْمَةِ وَتَنْكِيرُ الْجِنْسِ هُوَ الَّذِي يَعْرِضُ لَهُ قَصْدُ إِرَادَةِ التَّعْظِيمِ. فَهَذِهِ اثْنَا عَشَرَ مَعْنًى خُصُوصِيًّا، فَقَدْ فَاقَتْ أَجَمْعَ كَلِمَةٍ لِبُلَغَاءِ الْعَرَبِ، وَهِيَ:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ إِذْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ قُصَارَاهَا كَمَا قَالُوا: «أَنَّهُ وَقَفَ وَاسْتَوْقَفَ وَبَكَى وَاسْتَبْكَى وَذَكَرَ الْحَبِيبَ وَالْمَنْزِلَ» دُونَ خُصُوصِيَّةٍ أَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ فَجَمَعَ سِتَّةَ مَعَانٍ لَا غَيْرَ. وَهِيَ غَيْرُ خُصُوصِيَّةٍ إِنَّمَا هِيَ وَفْرَةُ مَعَانٍ. وَلَيْسَ تَنْكِيرُ «حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ» إِلَّا لِلْوَحْدَةِ لِأَنَّهُ أَرَادَ فَرْدًا مُعَيَّنًا مِنْ جِنْسِ الْأَحْبَابِ وَفَرْدًا مُعَيَّنًا مِنْ جِنْسِ الْمَنَازِلِ، وَهُمَا حَبِيبُهُ صَاحِبُ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ، وَمَنْزِلُهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ انْتِصَابَ رَحْمَةً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ يَجْعَلُهُ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِهِ فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ انْحِصَارُ الْمَوْصُوفِ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ صَارَ مِنْ قَصْرِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ. فَفِيهِ إِيمَاءٌ لَطِيفٌ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ اتَّحَدَ بِالرَّحْمَةِ وَانْحَصَرَ فِيهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ عُنْوَانَ الرَّسُولِيَّةِ مُلَازِمٌ لَهُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ، فَصَارَ وُجُودُهُ رَحْمَةً وَسَائِرُ أَكْوَانِهِ رَحْمَةً.

وَوُقُوعُ الْوَصْفِ مَصْدَرًا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي هَذَا الِاتِّحَادِ بِحَيْثُ تَكُونُ الرَّحْمَةُ صِفَةً مُتَمَكِّنَةً مِنْ إِرْسَالِهِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى مَا أَشَارَ إِلَى شَرْحِهِ

النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ»

(١) .

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يَظْهَرُ فِي مَظْهَرَيْنِ: الْأَوَّلُ تَخَلُّقُ نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ بِخُلُقِ الرَّحْمَةِ، وَالثَّانِي إِحَاطَةُ الرَّحْمَةِ بِتَصَارِيفِ شَرِيعَتِهِ.

فَأَمَّا الْمَظْهَرُ الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْقَيْسِيُّ الإشبيلي أحد تلاميذه أَبِي عَلِيٍّ الْغَسَّانِيِّ وَمِمَّنْ أَجَازَ لَهُمْ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ مِنْ رِجَالِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ:

«زَيَّنَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ


(١) رَوَاهُ مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي فِي كتاب «ذخيرة الْحفاظ» عَن أبي هُرَيْرَة يصفه بالضعف.