للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بَعْضِ الرُّسُلِ وَفِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ، وَالتَّقْدِيرُ أَفَاسْتَكْبَرْتُمْ كُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ فَقَدَّمَ الظَّرْفَ لِلِاهْتِمَامِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْعَجَبِ، وَقَدْ دَلَّ الْعُمُومُ الَّذِي فِي (كُلَّمَا) عَلَى شُمُولِ التَّكْذِيبِ أَوِ الْقَتْلِ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ عُمُومَ الْأَزْمَانِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَفْرَادِ الْمَظْرُوفَةِ فِيهَا.

وتَهْوى مُضَارِعُ هَوِيَ بِكَسْرِ الْوَاوِ إِذَا أَحَبَّ وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ مِنَ الِانْخِلَاعِ عَنِ الْقُيُودِ الشَّرْعِيَّةِ وَالِانْغِمَاسِ فِي أَنْوَاعِ الْمَلَذَّاتِ وَالتَّصْمِيمِ عَلَى الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ.

وَالِاسْتِكْبَارُ الِاتِّصَافُ بِالْكِبْرِ وَهُوَ هُنَا التَّرَفُّعُ عَنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَإِعْجَابُ الْمُتَكَبِّرِينَ بِأَنْفُسِهِمْ وَاعْتِقَادُ أَنَّهُمْ أَعْلَى مِنْ أَنْ يُطِيعُوا الرُّسُلَ وَيَكُونُوا أَتْبَاعًا لَهُمْ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي اسْتَكْبَرْتُمْ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ [الْبَقَرَة: ٣٤] وَقَوْلُهُ: فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ مُسَبَّبٌ عَنِ الِاسْتِكْبَارِ فَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَكْبَرُوا بَلَغَ بِهِمُ الْعِصْيَانُ إِلَى حَدِّ أَنْ كَذَّبُوا فَرِيقًا أَيْ صَرَّحُوا بِتَكْذِيبِهِمْ أَوْ عَامَلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْكَاذِبِ وَقَتَلُوا فَرِيقًا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ مَدْيَنَ: قالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ [هود: ٩] .

وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ هُنَا لِمَا فِيهِ مِنَ الدِّلَالَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ فَنَاسَبَ أَنْ يُقَدَّمَ لِيَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الْأَعْرَاف: ٣٠] . وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ كَثِيرٌ فِي لَفْظِ فَرِيقٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُ نَحْوَ طَائِفَةٍ إِذَا وَقَعَ مَعْمُولًا لِفِعْلٍ فِي مَقَامِ التَّقْسِيمِ نَحْوَ يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمرَان: ١٥٩] .

وَالتَّفْصِيلُ رَاجِعٌ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ: رَسُولٌ مِنَ الْإِجْمَالِ لِأَنَّ (كُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ)

أَفَادَ عُمُومَ الرَّسُولِ وَشَمِلَ هَذَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُكَذِّبُوهُ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ لَكِنَّهُمْ عَامَلُوهُ مُعَامَلَةَ الْمُكَذِّبِينَ بِهِ إِذْ شَكُّوا غَيْرَ مَرَّةٍ فِيمَا يُخْبِرُهُمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسَاءُوا الظَّنَّ بِهِ مِرَارًا فِي أَوَامِرِهِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَحَمَلُوهُ عَلَى قَصْدِ التَّغْرِيرِ بِهِمْ وَالسَّعْيِ لِإِهْلَاكِهِمْ كَمَا قَالُوا حِينَ بَلَغُوا الْبَحْرَ الْأَحْمَرَ وَحِينَ أَمَرَهُمْ بِالْحُضُورِ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحِينَ أَمَرَهُمْ بِدُخُولِ أَرِيحَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا بَقِيَّةُ الرُّسُلِ فَكَذَّبُوهُمْ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ مِثْلَ عِيسَى وَقَتَلُوا بَعْضَ الرُّسُلِ مِثْلَ أَشْعِيَاءَ وَزَكَرِيَّاءَ وَيَحْيَى ابْنِهِ وَأَرْمِيَاءَ.

وَجَاءَ فِي تَقْتُلُونَ بِالْمُضَارِعِ عِوَضًا عَنِ الْمَاضِي لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْفَظِيعَةِ وَهِيَ حَالَةُ قَتْلِهِمْ رُسُلَهُمْ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ [الرّوم: ٤٨] مَعَ مَا فِي صِيغَةِ تَقْتُلُونَ مِنْ مُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ فَاكْتَمَلَ بِذَلِكَ بَلَاغَةُ الْمَعْنَى وَحسن النّظم.