للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تَعَالَى أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٨٤] . وَهُمْ لَمْ يَظُنُّوا بِهِ الْجُنُونَ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ بُهْتَانًا. وَلَيْسَ الْقَوْلُ بِأَلْسِنَتِهِمْ هُوَ مَصَبُّ الِاسْتِفْهَامِ. ثُمَّ قَدْ نُقِضَ مَا تَسَبَّبَ عَلَى مَا اخْتَلَقُوهُ فَجِيءَ بِحَرْفِ الْإِضْرَابِ فِي الْخَبَرِ فِي مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ وَهُوَ (بَلْ) .

وَالْحَقُّ: الثَّابِتُ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، يَكُونُ فِي الذَّوَاتِ وَأَوْصَافِهَا. وَفِي الْأَجْنَاسِ، وَفِي الْمَعَانِي، وَفِي الْأَخْبَارِ. فَهُوَ ضِدُّ الْكَذِبِ وَضِدُّ السِّحْرِ وَضِدُّ الشِّعْرِ، فَمَا جَاءَهُمْ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي كُلُّهُ مَلَابِسٌ لِلْحَقِّ، فَبَطَلَ بِهَذَا مَا قَالُوهُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَقَالَةُ مَنْ لَمْ يَتَدَبَّرُوا الْقُرْآنَ وَمَنْ لَمْ يُرَاعُوا إِلَّا مُوَافَقَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفُوا حَالَ رَسُولِهِمُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَقَالَةُ مَنْ يَرْمِي بِالْبُهْتَانِ فَنَسَبُوا الصَّادِقَ إِلَى التَّلْبِيسِ وَالتَّغْلِيطِ.

فَالْحَقُّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ النَّبِيءُ أَوَّلُهُ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَمَا يَتْبَعُ

ذَلِكَ مِنَ الشَّرَائِعِ النَّازِلَةِ بِمَكَّةَ، كَالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالِاعْتِرَافِ لِلْفَاضِلِ بِفَضْلِهِ. وَزَجْرِ الْخَبِيثِ عَنْ خُبْثِهِ، وَأُخُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِّ. وَمَنْعِ الْفَوَاحِشِ مِنَ الزِّنَى وَقَتْلِ الْأَنْفُسِ وَوَأْدِ الْبَنَاتِ وَالِاعْتِدَاءِ وَأَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ وَإِهَانَةِ الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ. وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ إِبْطَالِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْعُدْوَانِ. والخلافة الَّتِي نشأوا عَلَيْهَا مِنْ عَهْدٍ قَدِيمٍ. فَكُلُّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ يَوْمَئِذٍ هُوَ الْمُوَافِقُ لِمُقْتَضَى نِظَامِ الْعُمْرَانِ الَّذِي خَلَقَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعَالَمَ فَهُوَ الْحَقُّ كَمَا قَالَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخان: ٣٩] . وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْكَاذِبِ وَقَوْلُ الْمَجْنُونِ الْمُخْتَصِّ بِهَذَا الَّذِي لَا يُشَارِكُهُمَا فِيهِ الْعُقَلَاءُ وَالصَّادِقُونَ غَيْرَ جَارِيَيْنِ عَلَى هَذَا الْحَقِّ كَانَ إِثْبَاتُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول حَقٌّ نَقْضًا لِإِنْكَارِهِمْ صِدْقَهُ. وَلِقَوْلِهِمْ هُوَ مَجْنُونٌ كَانَ مَا بَعْدَ (بَلْ) نَقْضًا لِقَوْلِهِمْ.

وَظَاهِرُ تَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ يَقْتَضِي أَنَّ ضَمِيرَ أَكْثَرُهُمْ يَعُودُ إِلَى الْقَوْمِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٤] فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَكْثَرُ