للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْإِشْرَابُ هُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ شَارِبًا، وَاسْتُعِيرَ لِجَعْلِ الشَّيْءِ مُتَّصِلًا بِشَيْءٍ وَدَاخِلًا فِيهِ وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ شِدَّةُ الِاتِّصَالِ وَالسَّرَيَانِ لِأَنَّ الْمَاءَ أَسْرَى الْأَجْسَامِ فِي غَيْرِهِ وَلِذَا يَقُولُ الْأَطِبَّاءُ الْمَاءُ مَطِيَّةُ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَمَرْكَبُهَا الَّذِي تُسَافِرُ بِهِ إِلَى أَقْطَارِ الْبَدَنِ فَلِذَلِكَ اسْتَعَارُوا الْإِشْرَابَ لِشِدَّةِ التَّدَاخُلِ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:

تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ فِي فُؤَادِي ... فَبَادِيهِ مَعَ الْخَافِي يَسِيرُ (١)

تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ ... وَلَا حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرُورُ

وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ أُشْرِبَ الثَّوْبُ الصَّبْغَ، قَالَ الرَّاغِبُ: مِنْ عَادَتِهِمْ إِذَا أَرَادُوا مُخَامَرَةَ حُبٍّ وَبُغْضٍ أَنْ يَسْتَعِيرُوا لِذَلِكَ اسْمَ الشَّرَابِ اهـ. وَقَدِ اشْتُهِرَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ فَهُجِرَ اسْتِعْمَالُ الْإِشْرَابِ بِمَعْنَى السَّقْيِ وَذِكْرُ الْقُلُوبِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ إِشْرَابَ الْعِجْلِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مِنْ شَأْنِ الْقَلْبِ مِثْلَ عِبَادَةِ الْعِجْلِ أَوْ تَأْلِيهِ الْعِجْلِ. وَإِنَّمَا جُعِلَ حُبُّهُمُ الْعِجْلَ إِشْرَابًا لَهُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ بَلَغَ حُبُّهُمُ الْعِجْلَ مَبْلَغَ الْأَمْرِ الَّذِي لَا اخْتِيَارَ لَهُمْ فِيهِ كَأَنَّ غَيْرَهُمْ أَشْرَبَهُمْ إِيَّاهُ كَقَوْلِهِمْ أُولِعَ بِكَذَا وَشُغِفَ.

وَالْعِجْلُ مَفْعُولُ أُشْرِبُوا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مَشْهُورٍ فِي أَمْثَالِهِ مِنْ تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ وَإِسْنَادِهَا إِلَى الذَّوَاتِ مِثْلِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣] أَيْ أَكْلُ لَحْمِهَا. وَإِنَّمَا شُغِفُوا بِهِ اسْتِحْسَانًا وَاعْتِقَادًا أَنَّهُ إِلَهُهُمْ وَأَنَّ فِيهِ نَفْعَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْهُ مِنْ ذَهَبٍ قَدَّسُوهُ مِنْ فَرْطِ حُبِّهِمُ الذَّهَبَ. وَقَدْ قَوِيَ ذَلِكَ الْإِعْجَابُ بِهِ بِفَرْطِ اعْتِقَادِهِمْ أُلُوهِيَّتَهُ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:

بِكُفْرِهِمْ فَإِنَّ الِاعْتِقَادَ يَزِيدُ الْمُعْتَقِدَ تَوَغُّلًا فِي حُبِّ مُعْتَقَدِهِ.

وَإِسْنَادُ الْإِشْرَابِ إِلَى ضَمِيرِ ذَوَاتِهِمْ ثُمَّ تَوْضِيحُهُ بِقَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمُ مُبَالَغَةٌ وَذَلِكَ مِثْلُ مَا يَقَعُ فِي بَدَلِ الْبَعْضِ وَالِاشْتِمَالِ وَمَا يَقَعُ فِي تَمْيِيزِ النِّسْبَةِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارا [النِّسَاء: ١٠] وَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ مَا هُنَا لِأَنَّ الْأَكْلَ مُتَمَحِّضٌ لِكَوْنِهِ مُنْحَصِرًا فِي الْبَطْنِ بِخِلَافِ الْإِشْرَابِ فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِالْقُلُوبِ.

وَقَوْلُهُ: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تذييل وَاعْتِرَاض ناشىء عَنْ قَوْلِهِمْ سَمِعْنا وَعَصَيْنا هُوَ خُلَاصَةٌ لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: ٩١] بَعْدَ أَنْ أُبْطِلَ ذَلِكَُُ


(١) ذكر هَذِه الأبيات الْقُرْطُبِيّ فِي «تَفْسِيره» وَقَالَ إِنَّهَا لأحد النابغتين أَي النَّابِغَة الذبياني أَو النَّابِغَة الْجَعْدِي فِي زَوجته عَثْمَة كَانَ عتب عَلَيْهَا فِي بعض الْأَمر فَطلقهَا وَكَانَ محبا لَهَا. وبعدهما:
أكاد إِذا ذكرت الْعَهْد مِنْهَا ... أطير لَو أَن إنْسَانا يطير