للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والذِّكْرِ: هُوَ الْقُرْآنُ، أَيْ نَهَانِي عَنِ التَّدَبُّرِ فِيهِ وَالِاسْتِمَاعِ لَهُ بَعْدَ أَنْ قَارَبْتُ فَهْمَهُ.

وَالْمَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ جاءَنِي مُسْتَعْمَلٌ فِي إِسْمَاعِهِ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءٍ حَلَّ عِنْدَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَتَانِي نَبَأُ كَذَا، قَالَ النَّابِغَةُ:

أَتَانِي- أَبَيْتَ اللَّعْنَ- أَنَّكَ لُمْتَنِي فَإِذَا حُمِلَ الظَّالِمُ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ عَلَى مُعَيَّنٍ وَهُوَ عُقْبَةُ بْنُ

أَبِي مُعَيْطٍ فَمَعْنَى مَجِيءِ الذِّكْرِ إِيَّاهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْنَسُ إِلَيْهِ حَتَّى صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَحَمَلَهُ عَلَى عَدَاوَتِهِ وَأَذَاتِهِ، وَإِذَا حُمِلَ الظَّالِمُ عَلَى الْعُمُومِ فَمَجِيءُ الذِّكْرِ هُوَ شُيُوعُ الْقُرْآنِ بَيْنَهُمْ، وَإِمْكَانُ اسْتِمَاعِهِمْ إِيَّاهُ. وَإِضْلَالُ خِلَّانِهِمْ إِيَّاهُمْ صَرْفُ كُلِّ وَاحِدٍ خَلِيلَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَتَعَاوُنُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي ذَلِكَ.

وَقِيلَ: الذِّكْرِ: كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ، بِنَاءً عَلَى تَخْصِيصِ الظَّالِمِ بِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَأْتِي فِي ذَلِكَ الْوُجُوهُ الْمُتَقَدِّمَةُ، فَإِنَّ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ النَّجَاةِ مُثِّلَتْ بِسَبِيلِ الرَّسُولِ الْهَادِي، وَمُثِّلَ الصَّرْفُ عَنْهَا بِالْإِضْلَالِ عَنِ السَّبِيلِ.

وإِذْ ظَرْفٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي، أَيْ بَعْدَ وَقْتٍ جَاءَنِي فِيهِ الذِّكْرُ، وَالْإِتْيَانُ بِالظَّرْفِ هُنَا دُونَ أَنْ يُقَالَ: بَعْدَ مَا جَاءَنِي، أَوْ بَعْدَ أَنْ جَاءَنِي، لِلْإِشَارَةِ إِلَى شِدَّةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الذِّكْرِ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي زَمَنٍ وَتَحَقَّقَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ [التَّوْبَة: ١١٥] أَيْ تَمَكَّنَ هَدْيُهُ مِنْهُمْ.

وَجُمْلَةُ وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا تَذْيِيلٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَلَامِ الظَّالِمِ تَنْبِيهًا لِلنَّاسِ عَلَى أَنَّ كُلَّ هَذَا الْإِضْلَالِ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَهُوَ الَّذِي يُسَوِّلُ لِخَلِيلِ الظَّالِمِ إِضْلَالَ خَلِيلِهِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ خَذُولُ الْإِنْسَانِ، أَيْ مَجْبُولٌ عَلَى شِدَّةِ خَذْلِهِ.

وَالْخَذْلُ: تَرْكُ نَصْرِ الْمُسْتَنْجِدِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى نَصْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٦٠] .

فَإِذَا أَعَانَ عَلَى الْهَزِيمَةِ فَهُوَ أَشَدُّ الْخَذْلِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي