للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَحَرٍّ، مِمَّا يَكُونُ بَعْضُهُ أَلْيَقَ بِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ بَعْضٍ بِبَعْضٍ آخَرَ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلِاسْتِدْلَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً [الْفرْقَان: ٤٧] ، فَهَذِهِ دلَالَة أُخْرَى ونعمة أُخْرَى وَالْحِكَمُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ كَثِيرَةٌ.

وَالْقَصْرُ هُنَا قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ وَلَيْسَ إِضَافِيًّا فَلِذَلِكَ لَا يُرَادُ بِهِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِخِلَافِ صِيَغِ الْقَصْرِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً إِلَى قَوْلِهِ وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً [الْفرْقَان: ٤٧- ٥٤] .

وَالْخِلْفَةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ: اسْمٌ لِمَا يَخْلُفُ غَيْرَهُ فِي بَعْضِ مَا يَصْلُحُ لَهُ.

صِيغَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى زِنَةِ فِعْلَةٍ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ ذُو خِلْفَةٍ، أَيْ صَاحِبُ حَالَةٍ خَلَفَ فِيهَا غَيْرَهُ ثُمَّ شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فَصَارَ اسْمًا، قَالَ زُهَيْرٌ:

بِهَا الْعِينُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وَأَطْلَاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ

أَيْ يَمْشِي سِرْبٌ وَيَخْلُفُهُ سِرْبٌ آخَرُ ثُمَّ يَتَعَاقَبُ هَكَذَا. فَالْمَعْنَى: جَعَلَ اللَّيْلَ خِلْفَةً

وَالنَّهَارَ خِلْفَةً: أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِلْفَةً عَنِ الْآخَرِ، أَيْ فِيمَا يَعْمَلُ فِيهَا مِنَ التَّدَبُّرِ فِي أَدِلَّةِ الْعَقِيدَةِ وَالتَّعَبُّدِ وَالتَّذَكُّرِ.

وَاللَّامُ فِي لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ لَامُ التَّعْلِيلِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ جَعَلَ، فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْجَعْلَ نَافِعٌ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شَكُورًا.

وَالتَّذَكُّرُ: تَفَعُّلٌ مِنَ الذِّكْرِ، أَيْ تَكَلِّفُ الذِّكْرِ. وَالذِّكْرُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى التَّأَمُّلِ فِي أَدِلَّةِ الدِّينِ، وَجَاءَ بِمَعْنَى: تَذَكُّرِ فَائِتٍ أَوْ مَنْسِيٍّ، وَيَجْمَعُ الْمَعْنَيَيْنِ اسْتِظْهَارُ مَا احْتُجِبَ عَنِ الْفِكْرِ.

وَالشُّكُورُ: بِضَمِّ الشِّينِ مَصْدَرٌ مُرَادِفُ الشُّكْرِ، وَالشُّكْرُ: عِرْفَانُ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِ.

وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْعِبَادَةُ لِأَنَّهَا شُكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى.

فَتُفِيدُ الْآيَةُ مَعْنَى: لِيَنْظُرَ فِي اخْتِلَافِهِمَا الْمُتَفَكِّرُ فَيَعْلَمَ أَنْ لَا بُدَّ لِانْتِقَالِهِمَا مَنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ مُؤْثَرٍ حَكِيمٍ فَيَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى تَوْحِيدِ الْخَالِقِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ عَظِيمُ الْقُدْرَةِ فَيُوقِنُ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ الْإِلَهِيَّةَ، وَلِيَشْكُرَ الشَّاكِرَ عَلَى مَا فِي اخْتِلَافِ