للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَ (قَلِيلٌ) إِذَا وُصِفَ بِهِ يَجُوزُ مُطَابَقَتُهُ لِمَوْصُوفِهِ كَمَا هُنَا، وَيَجُوزُ مُلَازَمَتُهُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ كَمَا قَالَ السموأل أَوِ الْحَارِثِيُّ:

وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ ... الْبَيْتَ وَنَظِيرُهُ فِي ذَلِكَ لَفْظُ (كَثِيرٌ) وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ [الْأَنْفَال: ٤٣] .

وَ «غَائِظُونَ» اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ غَاظَهُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى أَغَاظَهُ، أَيْ جَعَلَهُ ذَا غَيْظٍ. وَالْغَيْظُ:

أَشَدُّ الْغَضَبِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ فِي آلِ عِمْرَانَ [١١٩] ، وَقَوْلِهِ: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [١٥] ، أَيْ وَأَنَّهُمْ فَاعِلُونَ مَا يُغْضِبُنَا.

وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَنا لَامُ التَّقْوِيَةِ وَاللَّامُ فِي لَغائِظُونَ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَتَقْدِيمُ لَنا عَلَى لَغائِظُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ.

وَقَوْلُهُ: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ حَثٌّ لِأَهْلِ الْمَدَائِنِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا حَذِرِينَ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ إِذْ جَعَلَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَجَمِيعٌ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي سِيَاسَةِ الْمَمْلَكَةِ، أَيْ إِنَّا كلّنا حذرون، فَجَمِيع وَقَعَ مُبْتَدأ وَخَبره حاذِرُونَ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ، وَ (جَمِيعٌ) بِمَعْنَى: (كُلٍّ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فِي سُورَة يُونُس [٤] .

وحاذِرُونَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْحَاءِ فَهُوَ جَمْعُ حَذِرٍ وَهُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ عِنْدَ سِيبَوَيْهٍ والمحققين. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَخَلَفٍ بِأَلِفٍ بَعْدَ الْحَاءِ جَمْعُ (حَاذِرٍ) بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَذَرَ مِنْ شِيمَتِهِ

وَعَادَتِهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، أَيْ إِنَّا مِنْ عَادَتِنَا التَّيَقُّظُ لِلْحَوَادِثِ وَالْحَذَرُ مِمَّا عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهَا من سيّىء الْعَوَاقِبِ.

وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ السِّيَاسَةِ وَهُوَ سَدُّ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ وَلَوْ كَانَ احْتِمَالُ إِفْضَائِهَا إِلَى الْفَسَادِ ضَعِيفًا، فَالذَّرَائِعُ الْمُلْغَاةُ فِي التَّشْرِيعِ فِي حُقُوقِ الْخُصُوصِ غَيْرُ مُلْغَاةٍ فِي سِيَاسَةِ الْعُمُومِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ: إِنَّ نَظَرَ وُلَاةِ الْأُمُورِ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ أَوْسَعُ مِنْ نَظَرِ الْقُضَاةِ، فَالْحَذَرُ أَوْسَعُ مِنْ حِفْظِ الْحُقُوقِ وَهُوَ الْخَوْفُ