للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَافْتِتَاحُ الْكِتَابِ بِجُمْلَةِ الْبَسْمَلَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادِفَهَا كَانَ خَاصًّا بِكُتُبِ النَّبِيءِ سُلَيْمَانَ أَنْ يُتْبِعَ اسْمَ الْجَلالَة بوصفي: الرحمان الرَّحِيمِ، فَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً لِافْتِتَاحِ الْأُمُورِ ذَوَاتِ الْبَالِ فِي الْإِسْلَامِ ادَّخَرَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ بَقَايَا سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ أَنْ تُنُوسِيَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَتَحُوا كُتُبَهُمْ بِاسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ «الْمَرَاسِيلِ» : أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتُبُ «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ»

كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَكْتُبُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ صَارَ يَكْتُبُ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، أَيْ صَارَ يَكْتُبُ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِ كُتُبِهِ. وَأَمَّا جَعْلُهَا فَصْلًا بَيْنَ السُّوَرِ أَوْ آيَةً مِنْ كُلِّ سُورَةٍ فَمَسْأَلَةٌ أُخْرَى.

وَكَانَ كِتَابُ سُلَيْمَانَ وَجِيزًا لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْسَبُ بِمُخَاطَبَةِ مَنْ لَا يُحْسِنُ لُغَةَ الْمُخَاطِبِ فَيَقْتَصِرُ لَهُ عَلَى الْمَقْصُودِ لِإِمْكَانِ تَرْجَمَتِهِ وَحُصُولِ فَهْمِهِ فَأَحَاطَ كِتَابُهُ بِالْمَقْصُودِ، وَهُوَ تَحْذِيرُ مَلِكَةِ سَبَأٍ مِنْ أَنْ تُحَاوِلَ التَّرَفُّعَ عَلَى الْخُضُوعِ إِلَى سُلَيْمَانَ وَالطَّاعَةِ لَهُ كَمَا كَانَ شَأْنُ الْمُلُوكِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُ بِمِصْرَ وَصُورَ وَالْعِرَاقِ.

فَالْإِتْيَانُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ هُوَ إِتْيَانٌ مَجَازِيٌّ مِثْلُ مَا يُقَالُ: اتَّبِعْ سَبِيلِي.

ومُسْلِمِينَ مُشْتَقٌّ مِنْ أَسْلَمَ إِذَا تَقَلَّدَ الْإِسْلَامَ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْإِسْلَامِ عَلَى الدِّينِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا دَعَا مَلِكَةَ سَبَأٍ وَقَوْمَهَا إِلَى نَبْذِ الشِّرْكِ وَالِاعْتِرَافِ لِلَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِهَا وَأَمَّا دَعْوَتُهُمْ إِلَى إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَذَلِكَ مِمَّا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ الْبَشَرَ كُلَّهُمْ وَشَاعَ ذَلِكَ فِيهِمْ مِنْ عَهْدِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٢] ، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ

لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ

[يس: ٦٠] . جَمَعَ سُلَيْمَانُ بَيْنَ دَعْوَتِهَا إِلَى مُسَالَمَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ بِصِفَةِ الْمُلْكِ، وَبَيْنَ دَعْوَةِ قَوْمِهَا إِلَى اتِّبَاعِ دِينِ التَّوْحِيدِ وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ بِالنُّبُوءَةِ لِأَنَّ النَّبِيءَ يُلْقِي الْإِرْشَادَ إِلَى الْهُدَى حَيْثُمَا تَمَكَّنَ مِنْهُ كَمَا قَالَ شُعَيْبٌ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: ٨٨] وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ يُوسُفَ لِصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُف: ٣٩] الْآيَةَ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يُرْسَلْ