للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هَمْزُ الْوَصْلِ لِلنُّطْقِ بِالسَّاكِنِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَشَمِرٌ: وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ الدَّرَكِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ اللَّحَاقُ.

وَقَدِ امْتَلَكَتِ اللُّغَوِيِّينَ وَالْمُفَسِّرِينَ حَيْرَةٌ فِي تَصْوِيرِ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تُثَارُ مِنْهُ حَيْرَةٌ لِلنَّاظِرِ فِي تَوْجِيهِ الْإِضْرَابَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَ هَذَا الْإِضْرَابِ وَكَيْفَ يَكُونَانِ ارْتِقَاءً عَلَى مَضْمُونِ هَذَا الِانْتِقَالِ، وَذَكَرُوا وُجُوهًا مُثْقَلَةً بِالتَّكَلُّفِ.

وَالَّذِي أَرَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ اللُّغَوِيِّ أَنَّ مَعْنَى التَّدَارُكِ هُوَ أَنَّ عِلْمَ بَعْضِهِمْ لَحِقَ عِلْمَ بَعْضٍ آخَرَ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْعِلْمَ، وَهُوَ جِنْسٌ، لَمَّا أُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ حَصَلَ مِنْ مَعْنَاهُ عُلُومٌ عَدِيدَةٌ بِعَدَدِ أَصْنَافِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ الضَّمِيرِ فَصَارَ الْمَعْنَى: تَدَارَكَتْ عُلُومُهُمْ بَعْضُهَا بَعْضًا.

وَذَلِكَ صَالِحٌ لِمَعْنَيَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّدَارُكُ وَهُوَ التَّلَاحُقُ الَّذِي هُوَ اسْتِعْمَالٌ مَجَازِيٌّ يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ، أَيْ تَدَارَكَتْ عُلُومُ الْحَاضِرِينَ مَعَ عُلُومِ أَسْلَافِهِمْ، أَيْ تَلَاحَقَتْ وَتَتَابَعَتْ فَتَلَقَّى الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ عِلْمَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَتَقَلَّدُوهَا عَنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا نَظَرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَيُشْعِرُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَهُ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً

وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ

[النَّمْل: ٦٧- ٦٨] . وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [٨١] بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّدَارُكُ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا مُرْسَلًا فِي الِاخْتِلَاطِ وَالِاضْطِرَابِ لِأَنَّ التَّدَارُكَ وَالتَّلَاحُقَ يَلْزَمُهُ التَّدَاخُلُ كَمَا إِذَا لَحِقَتْ جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ جَمَاعَةٌ أُخْرَى أَيْ لَمْ يُرْسُوا عَلَى أَمْرٍ وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمُ اخْتِلَافًا يُؤْذِنُ بِتَنَاقُضِهَا، فَهُمْ يَنْفُونَ الْبَعْثَ ثُمَّ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَذَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْبَعْثِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ ثُمَّ يَتَزَوَّدُونَ تَارَةً لِلْآخِرَةِ بِبَعْضِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي مِنْهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْبِسُونَ الرَّاحِلَةَ عَلَى قَبْرِ صَاحِبِهَا وَيَتْرُكُونَهَا لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ حَتَّى تَمُوتَ فَيَزْعُمُونَ أَنَّ صَاحِبَهَا يَرْكَبُهَا، وَيُسَمُّونَهَا الْبَلِيَّةَ، فَذَلِكَ مِنِ اضْطِرَابِ أَمْرِهِمْ فِي الْآخِرَةِ.

وَفِعْلُ الْمُضِيِّ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى أَصْلِهِ. وَحَرْفُ (فِي) على هاذين الْوَجْهَيْنِ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مُسْتَعْمَلٌ فِي السَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ الْآخِرَةِ.

وَيَجُوزُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ادَّارَكَ مُبَالَغَةً فِي (أَدْرَكَ) وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفًا