للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هُدًى وَأَنَّهُمْ عَلَى ضَلَالٍ بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ لِذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ بِالْمُقَارَنَةِ بَيْنَ حَالَيِ الرَّسُولَيْنِ وَمَا لَقِيَاهُ مِنَ الْمُعْرِضِينِ.

وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ اسْمٌ مَوْصُولٌ دُونَ اسْمِهِ تَعَالَى الْعَلَمِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ. وَأَنَّهُ خَبَرُ الْكَرَامَةِ وَالتَّأْيِيدِ أَيْ أَنَّ الَّذِي أَعْطَاكَ الْقُرْآنَ مَا كَانَ إِلَّا مُقَدِّرًا نَصْرَكَ وَكَرَامَتَكَ لِأَنَّ إِعْطَاءَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَا نَظِيرَ لَهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْمُعْطَى. قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:

مَهْلًا هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الْ ... قُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ

وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَعْظِيمِ شَأْنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَمَعْنَى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ اخْتَارَهُ لَكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَضَ لَهُ كَذَا، إِذَا عَيَّنَ لَهُ فَرْضًا، أَيْ نَصِيبًا. وَلَمَّا ضُمِّنَ فَرَضَ مَعْنَى (أَنْزَلَ) لِأَنَّ فَرْضَ الْقُرْآنِ هُوَ إِنْزَالُهُ، عُدِّيَ فَرَضَ بِحَرْفِ (عَلَى) .

وَالرَّدُّ: إِرْجَاعُ شَيْءٍ إِلَى حَالِهِ أَوْ مَكَانِهِ. وَالْمَعَادُ: اسْمُ مَكَانِ الْعَوْدِ، أَيِ الْأَوْلِ كَمَا يَقْتَضِيهُ حَرْفُ الِانْتِهَاءِ. وَالتَّنْكِيرُ فِي مَعادٍ لِلتَّعْظِيمِ كَمَا يَقْتَضِيهُ مَقَامُ الْوَعْدِ وَالْبِشَارَةِ، وَمَوْقِعُهُمَا بَعْدَ قَوْلِهِ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها (١) [الْقَصَص: ٨٤] ، أَيْ إِلَى مَعَادٍ أَيِّ مَعَادٍ.

وَالْمَعَادُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى آخِرِ أَحْوَالِ الشَّيْءِ وَقَرَارِهِ الَّذِي لَا انْتِقَالَ مِنْهُ تَشْبِيهًا بِالْمَكَانِ الْعَائِدِ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ صَدَرَ مِنْهُ أَوْ كِنَايَةً عَنِ الْأَخَارَةِ فَيَكُونُ مُرَادًا بِهِ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدِ اشْتَهَرَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِالْمَعَادِ لِأَنَّهُ مَعَادُ الْكُلِّ اه. أَيْ فَأَبْشِرْ بِمَا تَلْقَى فِي مَعَادِكَ مِنَ الْكَرَامَةِ الَّتِي لَا تُعَادِلُهَا كَرَامَةٌ وَالَّتِي لَا تُعْطَى لِأَحَدٍ غَيْرِكَ. فَتَنْكِيرُ مَعادٍ أَفَادَ أَنَّهُ عَظِيمُ الشَّأْنِ، وَتَرَتُّبُهُ عَلَى الصِّلَةِ أَفَادَ أَنَّهُ لَا يُعْطَى لِغَيْرِهِ مِثْلُهُ كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُفْرَضْ عَلَى أَحَدٍ مِثْلِهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَعَادِ مَعْنَاهُ الْمَشْهُودُ الْقَرِيبُ مِنَ الْحَقِيقَةِ. وَهُوَ مَا يَعُودُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ إِنْ غَابَ عَنْهُ، فيراد بِهِ هُنَا بَلَدُهُ الَّذِي كَانَ بِهِ وَهُوَ مَكَّةُ. وَهَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ خُرُوجِهِ مِنْهُ ثُمَّ عَوْدِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّ الرَّدَّ يَسْتَلْزِمُ الْمُفَارَقَةَ. وَإِذْ قَدْ كَانَتِ السُّورَةُ


(١) فِي المطبوعة (عشر أَمْثَالهَا) .