للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَى هَذِهِ الضَّلَالَةِ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى مَا قَبْلَهَا، فَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ فَتَكُونُ هَاتِهِ الْآيَةُ رُجُوعًا إِلَى جَمْعِهِمْ فِي قَرَنٍ إِتْمَامًا لِجَمْعِ أَحْوَالِهِمُ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [الْبَقَرَة: ١٠٥] وَفِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [الْبَقَرَة: ١١٣] . وَقَدْ خُتِمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِآيَةٍ جَمَعَتِ الْفَرِيقَ الثَّالِثَ فِي مَقَالَةٍ أُخْرَى وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ [الْبَقَرَة: ١١٨] إِلَى قَوْلِهِ:

كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [الْبَقَرَة: ١١٨] .

وَالْقَوْلُ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ الْكَلَامُ اللِّسَانِيُّ وَلِذَلِكَ نَصَبَ الْجُمْلَةَ وَأُرِيدَ أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَفْقِ الِاعْتِقَادِ.

وَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً جَاءَ بِلَفْظِ (اتَّخَذَ) تَعْرِيضًا بِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ بِأَنَّ كَلَامَهُمْ لَا يَلْتَئِمُ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَلَدًا لِلَّهِ وَيَقُولُونَ اتَّخَذَهُ اللَّهُ.

وَالِاتِّخَاذُ الِاكْتِسَابُ وَهُوَ يُنَافِي الْوَلَدِيَّةَ إِذِ الْوَلَدِيَّةُ تُولَدُ بِدُونِ صُنْعٍ فَإِذَا جَاءَ الصُّنْعُ جَاءَتِ الْعُبُودِيَّةُ لَا مَحَالَةَ وَهَذَا التَّخَالُفُ هُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عِلْمِ الْجَدَلِ بِفَسَادِ الْوَضْعِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَنْتِجَ وُجُودَ الشَّيْءِ مِنْ وُجُودِ ضِدِّهِ كَمَا يَقُولُ قَائِلٌ: الْقَتْلُ جِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَا تُكَفَّرُ مِثْلُ الرِّدَّةِ.

وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِالنِّسْبَةِ للْمُشْرِكين ناشىء عَنْ جَهَالَةٍ وَبِالنِّسْبَةِ لأهل الْكِتَابَيْنِ ناشىء عَنْ تَوَغُّلِهِمَا فِي سُوءِ فَهْمِ الدِّينِ حَتَّى تَوَهَّمُوا التَّشْبِيهَاتِ وَالْمَجَازَاتِ حَقَائِقَ فَقَدْ وَرَدَ وَصْفُ الصَّالِحِينَ بِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ وَوَرَدَ فِي كِتَابِ النَّصَارَى وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَبُو عِيسَى وَأَبُو الْأُمَّةِ فَتَلَقَّفَتْهُ عُقُولٌ لَا تَعْرِفُ التَّأْوِيلَ وَلَا تُؤَيِّدُ اعْتِقَادَهَا بِوَاضِحِ الدَّلِيلِ فَظَنَّتْهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ.

جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ ١٤ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ «أَنْتُمْ أَوْلَادٌ لِلرَّبِّ إِلَهِكُمْ لَا تَخْمِشُوا أَجْسَامَكُمْ» وَفِي إِنْجِيلِ مَتَّى الْإِصْحَاحِ ٥ «طُوبَى لِصَانِعِي السَّلَامِ لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ يُدْعَوْنَ» وَفِيهِ «وَصَلُّوا لِأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» وَفِي الْإِصْحَاحِ ٦ «انْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ إِنَّهَا لَا تَزْرَعُ وَلَا تَحْصُدُ وَلَا تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا» وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْأَنَاجِيلِ غَيْرَ مَرَّةٍ فَفَهِمُوهَا بِسُوءِ الْفَهْمِ عَلَى ظَاهِرِ عِبَارَتِهَا وَلَمْ يُرَاعُوا أُصُولَ الدِّيَانَةِ الَّتِي تُوجِبُ تَأْوِيلَهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا جَاءَتْهُمْ أَمْثَالُ هَاتِهِ الْعِبَارَاتِ أَحْسَنُوا تَأْوِيلَهَا وَتَبَيَّنُوا دَلِيلَهَا كَمَا

فِي الْحَدِيثِ: «الْخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ» .