للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بِالصُّلْحِ فَإِنَّ النَّاسَ تَعَلَّقُوا بِهَا وَشَكَوْا إِلَيْهَا مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ عِظَيمِ الْفِتْنَةِ وَرَجَوْا بَرَكَتَهَا أَنْ تَخْرُجَ فَتُصْلِحَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَظَنُّوا أَنَّ النَّاسَ يَسْتَحْيُونَ مِنْهَا فَتَأَوَّلَتْ لِخُرُوجِهَا مَصْلَحَةً تُفِيدُ إِطْلَاقَ الْقَرَارِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ يكافىء الْخُرُوجَ لِلْحَجِّ. وَأَخَذَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات: ٩] وَرَأَتْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِصْلَاحِ يَشْمَلُهَا وَأَمْثَالَهَا مِمَّنْ يَرْجُونَ سَمَاعَ الْكَلِمَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهَا عَنِ اجْتِهَادٍ. وَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهَا جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ وَخَرَجُوا مَعَهَا مِثْلَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَنَاهِيكَ بِهِمَا. وَهَذَا مِنْ مَوَاقِعِ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْنَا حَمْلُهَا عَلَى أَحْسَنِ الْمَخَارِجِ وَنَظُنُّ بِهَا أَحْسَنَ الْمَذَاهِبِ، كَقَوْلِنَا فِي تَقَاتُلِهِمْ فِي صِفِّينَ وَكَادَ أَنْ يَصْلُحَ الْأَمْرُ وَلَكِنْ أَفْسَدَهُ دُعَاةُ الْفِتْنَةِ وَلَمْ تَشْعُرْ عَائِشَةُ إِلَّا وَالْمُقَاتَلَةُ قَدْ جَرَتْ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ. وَلَا يَنْبَغِي تَقَلُّدُ كَلَامِ الْمُؤَرِّخِينَ عَلَى عِلَّاتِهِ فَإِنَّ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَمَنْ تَلَقَّفُوا الْغَثَّ وَالسَّمِينَ. وَمَا يُذْكَرُ عَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا قَرَأَتْ هَذِهِ الْآيَةَ تَبْكِي حَتَّى يَبْتَلَّ خِمَارُهَا، فَلَا ثِقَةَ بِصِحَّةِ سَنَدِهِ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمَلُهُ أَنَّهَا أَسِفَتْ لِتِلْكَ الْحَوَادِثِ الَّتِي أَلْجَأَتْهَا إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ.

وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى.

التَّبَرُّجُ: إِظْهَارُ الْمَرْأَةِ مَحَاسِنَ ذَاتِهَا وَثِيَابِهَا وَحُلِيِّهَا بِمَرْأَى الرِّجَالِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ فِي سُورَةِ النُّورِ [٦٠] .

وَانْتَصَبَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْوَصْفِ الْكَاشِفِ أُرِيدَ بِهِ التَّنْفِيرُ مِنَ التَّبَرُّجِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ الدَّوَامُ عَلَى الِانْكِفَافِ عَنِ التَّبَرُّجِ وَأَنَّهُنَّ مَنْهِيَّاتٌ عَنْهُ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِنَهْيِ غَيْرِهِنَّ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ عَنِ التَّبَرُّجِ، فَإِنَّ الْمَدِينَةَ أَيَّامَئِذٍ قَدْ بَقِيَ فِيهَا نِسَاءُ الْمُنَافِقِينَ وَرُبَّمَا كُنَّ عَلَى بَقِيَّةٍ مِنْ سِيرَتِهِنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأُرِيدَ النِّدَاءُ عَلَى إِبْطَالِ ذَلِكَ فِي سِيرَةِ الْمُسْلِمَاتِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْهِيَّاتٌ عَنِ التَّبَرُّجِ مُطْلَقًا حَتَّى فِي الْأَحْوَالِ الَّتِي رُخِّصَ لِلنِّسَاءِ التَّبَرُّجُ فِيهَا فِي سُورَةِ النُّورِ فِي بُيُوتِهِنَّ لِأَنَّ تَرْكَ التَّبَرُّجِ كَمَالٌ وَتَنَزُّهٌ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالسَّفَاسِفِ.

فَنُسِبَ إِلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانَ قَدْ تَقَرَّرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَحْقِيرُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ