للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَهَؤُلَاءِ مِنْ قُوَّة الانفعال أَو الممانعة عَلَى حَسَبِ السُّنَنِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ سُلْطَانٍ، وَحُذِفَ الْمُسْتَثْنَى وَدَلَّ عَلَيْهِ عِلَّتُهُ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا سُلْطَانًا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ. فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُلْطَانٌ مَجْعُولٌ لَهُ بِجَعْلِ اللَّهِ بِقَرِينَةِ أَنَّ تَعْلِيلَهُ مُسْنَدٌ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ.

وَانْظُرْ مَا قُلْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٤٢] وَضُمَّهُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ هُنَا.

وَاقْتُصِرَ مَنْ عَلَّلَ تَمْكِينِ الشَّيْطَانِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى تَمْيِيزِ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا لِمُرَاعَاةِ أَحْوَالِ الَّذِينَ سَبَقَتْ إِلَيْهِمُ الْمَوْعِظَةُ بِأَهْلِ سَبَإٍ وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِأَن جحودهم الْآخِرَة قَرِينٌ لِلشِّرْكِ وَمُسَاوٍ لَهُ فَإِنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا بِالْآخِرَةِ لَآمَنُوا بِرَبِّهَا وَهُوَ الرَّبُّ الْوَاحِدُ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ عِلَلَ جَعْلِ الشَّيْطَانِ لِلْوَسْوَسَةِ كَثِيرَةٌ مَرْجِعُهَا إِلَى تَمْيِيزِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُتَّقِينَ مِنَ الْمُعْرِضِينَ. وَكُنِّيَ بِ «نَعْلَمَ» عَنْ إِظْهَارِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ لِأَنَّ الظُّهُورَ يُلَازِمُ الْعِلْمَ فِي الْعرف. قَالَ قبيضة الطَّائِيُّ مِنْ رِجَالِ حَرْبِ ذِي قَارٍ:

وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطُرُ بَيْنَنَا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا

أَرَادَ لِيَتَمَيَّزَ الْجَبَانُ مِنَ الشُّجَاعِ فَيَعْلَمُهُ النَّاسُ، فَإِنَّ غَرَضَهُ الْأَهَمَّ إِظْهَارُ شَجَاعَةِ نَفْسِهِ لِثِقَتِهِ بِهَا لَا اخْتِبَارُ شَجَاعَةِ أَقْرَانِهِ وَإِلَّا لَكَانَ مُتَرَدِّدًا فِي إِقْدَامِهِ. فَالْمَعْنَى: لِيَظْهَرَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَيَتَمَيَّزَ عَمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ فَيَعْلَمُهُ مَنْ يَعْلَمُهُ وَيَتَعَلَّقُ عِلْمُنَا بِهِ تَعَلُّقًا جُزْئِيًّا عِنْدَ حُصُولِهِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنْ لَا مَحِيصَ مِنِ اعْتِبَارِ تَعَلُّقٍ تَنْجِيزِيٍّ لِعِلْمِ اللَّهِ. وَرَأَيْتُ فِي «الرِّسَالَةِ الْخَاقَانِيَّةِ» لِعَبْدِ الْحَكِيمِ السَّلَكُوتِيِّ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَثْبَتَ ذَلِكَ

التَّعَلُّقَ وَلَمْ يُعَيِّنْ قَائِلَهُ. وَخُولِفَ فِي النَّظْمِ بَيْنَ الصِّلَتَيْنِ فَجَاءَتْ جُمْلَةُ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ فِعْلِيَّةً، وَجَاءَتْ جُمْلَةُ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ اسْمِيَّةً لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْآخِرَةِ طَارِئٌ عَلَى كُفْرِهِمُ السَّابِقِ وَمُتَجَدِّدٌ وَمُتَزَايِدٌ آنًا فَآنًا. فَكَانَ مُقْتَضَى الْحَالِ إِيرَادُ الْفِعْلِ فِي صِلَةِ أَصْحَابِهِ. وَأَمَّا شَكُّهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَبِخِلَافِ ذَلِكَ هُوَ أَمْرٌ مُتَأَصِّلٌ فِيهِمْ فَاجْتُلِبَتْ لِأَصْحَابِهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ.