للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا إِلَيْهَا وَمَعْشَرًا ... عَلَيَّ حِرَاصًا لَوْ يُسِرُّونَ مَقْتَلِي

وَأَمَّا ابْنُ عَطِيَّةَ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: «وَلَمْ يَثْبُتْ قَطُّ فِي اللُّغَةِ أَنَّ (أَسَرَّ) مِنَ الْأَضْدَادِ» .

قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ عَدَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي الْأَضْدَادِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ قَوْلَ الْفَرَزْدَقِ:

وَلَمَّا رَأَى الْحَجَّاجَ جَرَّدَ سَيْفَهُ ... أَسَرَّ الْحَرُورِيُّ الَّذِي كَانَ أَضْمَرَا

وَفِي كِتَابِ «الْأَضْدَادِ» لِأَبِي الطَّيِّبِ الْحَلَبِيِّ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَا أَثِقُ بِقَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْقُرْآن وَلَا بقول الْفَرَزْدَقِ وَالْفَرَزْدَقُ كَثِيرُ التَّخْلِيطِ فِي شِعْرِهِ. وَذَكَرَ أَبُو الطَّيِّبِ عَنِ التَّوَّزِيِّ أَنَّ غَيْرَ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنْشَدَ بَيْتَ الْفَرَزْدَقِ وَالَّذِي جَرَّ عَلَى تَفْسِيرِ «أَسَرُّوا» بِمَعْنَى أَظْهَرُوا هُنَا هُوَ مَا يَقْتَضِي إِعْلَانَهُمْ بِالنَّدَامَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ: ٣١] . وَفِي

آيَاتٍ أُخْرَى مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الْفرْقَان: ٢٧] الْآيَةَ.

وَالنَّدَامَةُ: التَّحَسُّرُ مِنْ عَمَلٍ فَاتَ تَدَارُكُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [[الْمَائِدَة]] [٣١] .

وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [٣٣] .

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ [سبأ: ٣١] . وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ تَرَى إِذْ جَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاق الَّذين كفرُوا. وَجَوَاب (لَو) الْمَحْذُوف جَوَاب للشرطين.

والْأَغْلالَ: جمع غلّ بِضَم الْغَيْن، وَهُوَ دَائِرَة من حَدِيد أَو جلد على سَعَة الرَّقَبَة تُوضَع فِي رَقَبَةِ الْمَأْسُورِ وَنَحْوِهِ وَيُشَدُّ إِلَيْهَا بِسِلْسِلَةٍ أَوْ سَيْرٍ مِنْ جِلْدٍ أَوْ حَبْلٍ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ. وَجَعْلُ الْأَغْلَالِ فِي الْأَعْنَاقِ شِعَارٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُسَاقُونَ إِلَى مَا يُحَاوِلُونَ الْفِرَارَ وَالِانْفِلَاتَ مِنْهُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ فِي الرَّعْدِ [٥] . والَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَرَتْ عَلَيْهِمُ الضَّمَائِرُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَالْإِتْيَانُ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ وَكَوْنُهُ مَوْصُولًا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَزَاءُ الْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِجُمْلَةِ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا،