للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثُمَّ اسْتَطْرَدَ الْكَلَامَ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِمْ آمَنَّا بِهِ إِلَى إِضَاعَتِهِمْ وَقْتَ الْإِيمَانِ بِجُمْلَةِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ إِلَى آخِرِهَا.

وأَنَّى اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَكَانِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ.

والتَّناوُشُ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِوَاوٍ مَضْمُومَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ وَهُوَ التَّنَاوُلُ السَّهْلُ أَوِ الْخَفِيفُ وَأَكْثَرُ وُرُودِهِ فِي شُرْبِ الْإِبِلِ شُرْبًا خَفِيفًا مِنَ الْحَوْضِ وَنَحْوِهِ، قَالَ غَيْلَانُ بْنُ حُرَيْثٍ:

بَاتَتْ تَنُوشُ الْحَوْضَ نَوْشًا مِنْ عَلَا ... نَوْشًا بِهِ تُقَطَّعُ أَجْوَازُ الْفَلَا

يتحدث عَن رَاحِلَته، أَيْ تَتَنَاوَلُ الْمَاءَ مِنْ أَعْلَاهُ وَلَا تَغُوصُ مَشَافِرُهَا فِيهِ.

وَجُمْلَةُ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ مُرَكَّبٌ تَمْثِيلِيٌّ يُفِيدُ تَشْبِيهَ حَالِهِمْ إِذْ فَرَّطُوا فِي أَسْبَابِ النَّجَاةِ وَقْتَ الْمُكْنَةِ مِنْهَا حِينَ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُمْ وَيُحَرِّضُهُمْ وَيُحَذِّرُهُمْ وَقَدْ عَمَّرَهُمُ اللَّهُ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تذكر ثمَّ جاؤوا يَطْلُبُونَ النَّجَاةَ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا بِحَالِهِمْ كَحَالِ مَنْ يُرِيدُ تَنَاوُشَهَا وَهُوَ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ عَنْ مُرَادِهِ الَّذِي يَجِبُ تَنَاوُلُهُ.

وَهَذَا التَّمْثِيلُ قَابِلٌ لِتَفْرِيقِ أَجْزَائِهِ بِأَنْ يُشَبَّهَ السَّعْيُ بِمَا يَحْصُلُ بِسُرْعَةٍ بِالتَّنَاوُشِ وَيُشَبَّهُ فَوَاتُ الْمَطْلُوبِ بِالْمَكَانِ الْبَعِيدِ كَالْحَوْضِ.

وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِم وَخلف بِالْهَمْزَةِ فِي مَوْقِعِ الْوَاوِ

فَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ مِنْ إِبْدَالِ الْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ هَمْزَةً لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ فِي نُطْقِ الضَّمَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُقِّتَتْ [المرسلات: ١١] وَقَوْلِهِمْ: أُجُوهٌ: جَمْعُ وَجْهٍ. وَبَحَثَ فِيهِ أَبُو حَيَّانَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ أَيْضًا: هُوَ مِنْ نَأَشَ بِالْهَمْزِ إِذَا أَبْطَأَ وَتَأَخَّرَ فِي عَمَلٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ نَهْشَلِ بْنِ حَرِيٍّ النَّهْشَلِيِّ:

تَمَنَّى نَئِيشًا أَنْ يَكُونَ أَطَاعَنِي ... وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الْأُمُورِ أُمُورُ

أَيْ تَمَنَّى أَخِيرًا. وَفَسَّرَ الْمَعَرِّيُّ فِي «رِسَالَةِ الْغُفْرَانِ» نَئِيشًا بِمَعْنَى: بَعْدَ مَا فَاتَ.

وَعَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ فَالْمُرَادُ بِالتَّنَاوُشِ وَصْفُ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِهِ بِأَنَّهُ إِيمَانٌ تَأَخَّرَ وَقْتُهُ أَوْ فَاتَ وَقْتُهُ.