للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ يُفِيدُ قَصْرًا وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِمَا لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ عِزَّةٍ ضَئِيلَةٍ، أَيْ فَالْعِزَّةُ لِلَّهِ لَا لَهُمْ.

وَمِنْهُ مَا يَكُونُ فِيهِ تَرْتِيبُ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ فِي الْوُقُوعِ، وَهُوَ الْأَصْلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ [الْإِسْرَاء: ١٨] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها [هود: ١٥] .

وجَمِيعاً أَفَادَتِ الْإِحَاطَةَ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ التَّأْكِيدِ لِلْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ فَحَصَلَتْ ثَلَاثَةُ مُؤَكِّدَاتٍ فَالْقَصْرُ بِمَنْزِلَةِ تَأْكِيدَيْنِ (١) وجَمِيعاً بِمَنْزِلَةِ تَأْكِيدٍ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [النِّسَاء: ١٣٩] فَإِنَّ فِيهِ تَأْكِيدَيْنِ: تَأْكِيدًا بِ (إِنَّ) وَتَأْكِيدًا بِ جَمِيعاً لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَقْتِ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَحْتَجْ فِيهَا إِلَى تَقْوِيَةِ التَّأْكِيدِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى جَمِيعاً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً فِي سُورَةِ سَبَأٍ [٤٠] .

وَانْتَصَبَ جَمِيعاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْعِزَّةَ وَكَأَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيِ الْعِزَّةُ كُلُّهَا لِلَّهِ لَا يَشِذُّ شَيْءٌ مِنْهَا فَيَثْبُتُ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْعِزَّةَ الْمُتَعَارَفَةَ بَيْنَ النَّاسِ كَالْعَدَمِ إِذْ لَا يَخْلُو صَاحِبُهَا مِنِ احْتِيَاجٍ وَوَهَنٍ وَالْعِزَّةُ الْحَقُّ لِلَّهِ.

وَتَعْرِيفُ الْعِزَّةَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالْعِزَّةُ: الشَّرَفُ وَالْحَصَانَةُ مِنْ أَنْ يُنَالَ بِسُوءٍ.

فَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَانْصَرَفَ عَنْ دَعْوَةِ اللَّهِ إِبْقَاءً عَلَى مَا يَخَالُهُ لِنَفْسِهِ مِنْ عِزَّةٍ فَهُوَ مُخْطِئٌ إِذْ لَا عِزَّةَ لَهُ فَهُوَ كَمَنْ أَرَاقَ مَاءً لِلَمْعِ سَرَابٍ. وَالْعِزَّةُ الْحَقُّ لِلَّهِ الَّذِي دَعَاهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. وَعِزَّةُ الْمَوْلَى ينَال حزبه وأولياءه حَظّ مِنْهَا فَلَوِ اتَّبَعُوا أَمْرَ اللَّهِ فَالْتَحَقُوا بِحِزْبِهِ صَارَتْ لَهُمْ عِزَّةُ اللَّهِ وَهِيَ الْعِزَّةُ الدَّائِمَةُ فَإِنَّ عِزَّةَ الْمُشْرِكِينَ يَعْقُبُهَا ذُلُّ الِانْهِزَامِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ فِي الدُّنْيَا وَذُلُّ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَعِزَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَزَايُدِ الدُّنْيَا وَلَهَا دَرَجَاتُ كَمَالٍ فِي الْآخِرَةِ.

إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.

كَمَا أَتْبَعَ تَفْصِيلَ غُرُورِ الشَّيْطَانِ بِعَوَاقِبِهِ فِي الْآخِرَةِ بقوله: إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ


(١) لقَوْل السكاكي: لَيْسَ الْحصْر والتخصيص إلّا تَأْكِيدًا على تَأْكِيد.