للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ١٢]

وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)

انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَحْوَالِ فِي الْأَجْوَاءِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ بِحَارٍ وَأَنْهَارٍ وَمَا فِي صِفَاتِهَا مِنْ دَلَالَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى دَلَالَةِ وُجُودِ أعيانها، على عَظِيم مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَصِيغَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أُسْلُوبٍ بَدِيعٍ إِذِ اقْتُصِرَ فِيهِ عَلَى التَّنْبِيهِ عَلَى الْحِكْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ نَامُوسُ تَمَايُزِهَا بِخَصَائِصَ مُخْتَلِفَةٍ وَاتِّحَادِ أَنْوَاعِهَا فِي خَصَائِصَ مُتَمَاثِلَةٍ اسْتِدْلَالًا عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: تُسْقَى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرَّعْد: ٤] وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالَ بِخَلْقِ الْبَحْرَيْنِ أَنْفُسِهِمَا لِأَنَّ ذِكْرَ اخْتِلَافِ مَذَاقِهِمَا يَسْتَلْزِمُ تَذَكُّرَ تَكْوِينِهِمَا.

فَالتَّقْدِيرُ: وَخَلَقَ الْبَحْرَيْنِ الْعَذْبَ وَالْأُجَاجَ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَخَالف بَين أعراضهما، فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَفَاوُتُ الْبَحْرَيْنِ فِي الْمَذَاقِ وَاقْتُصِرَ عَلَيْهِ

لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَفَانِينِ الدَّلَائِلِ عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَفِي «الْكَشَّافِ» : ضَرَبَ الْبَحْرِينِ الْعَذْبَ وَالْمَالِحَ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، ثُمَّ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ فِي صِفَةِ الْبَحْرَيْنِ وَمَا عُلِّقَ بِهِمَا مِنْ نِعْمَتِهِ وَعَطَائِهِ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا.

وَالْبَحْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: اسْمٌ لِلْمَاءِ الْكَثِيرِ الْقَارِّ فِي سَعَةٍ، فَالْفُرَاتُ وَالدِّجْلَةُ بَحْرَانِ عَذْبَانِ وَبَحْرُ خَلِيجِ الْعَجَمِ مِلْحٌ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبَحْرَيْنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٥٣] وَقَدِ اتَّحَدَا فِي إِخْرَاجِ الْحِيتَانِ وَالْحِلْيَةِ، أَيِ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ، وَهُمَا يُوجَدُ أَجْوَدُهُمَا فِي بَحْرِ الْعَجَمِ حَيْثُ مَصَبُّ النَّهْرَيْنِ، وَلِمَاءِ النَّهْرَيْنِ الْعَذْبِ وَاخْتِلَاطِهِ بِمَاء الْبَحْر الْملح أَثَرٌ فِي جَوْدَةِ اللُّؤْلُؤِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فَقَوْلُهُ: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا كُلِّيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً كُلٌّ لَا كُلِّيَّةٌ لِأَنَّ مِنْ مَجْمُوعِهَا تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً. وَكَلِمَةُ كُلٍّ صَالِحَةٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ، فَعَطْفُ وَتَسْتَخْرِجُونَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ.