للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ كَائِنًا مَنْ كَانَ إِمْسَاكَهُمَا وَإِرْجَاعَهُمَا.

وَ «من بعد» صفة أَحَدٍ ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَي أحد ناشىء أَوْ كَائِنٍ مِنْ زَمَانٍ بَعْدَهُ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ (بَعْدِ) تَأَخُّرُ زَمَانِ أَحَدٍ عَنْ زَمَنِ غَيْرِهِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ (بَعْدَ) وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْمُغَايَرَةِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّ بَعْدِيَّةَ الزَّمَانِ الْمُضَافِ تَقْتَضِي مُغَايِرَةَ صَاحِبِ تِلْكَ الْبَعْدِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية: ٢٣] ، أَيْ غَيْرِ اللَّهِ فَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ (بَعْدَ) عَائِدٌ إِلَى الله تَعَالَى.

وَهَذَا نَظِيرُ اسْتِعْمَالِ (وَرَاءَ) بِمَعْنَى (دُونَ) أَوْ بِمَعْنَى (غَيْرَ) أَيْضًا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:

وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ وَفِي ذِكْرِ إِمْسَاكِ السَّمَاوَاتِ عَنِ الزَّوَالِ بَعْدَ الْإِطْنَابِ فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَتَفْظِيعِ غُرُورِهِمْ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْفَظَاعَةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُزَلْزِلَ الْأَرَضِينَ وَيُسْقِطَ السَّمَاءَ كِسَفًا لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بَقَاءَهُمَا لِحِكْمَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا يكَاد السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مَرْيَم: ٨٩، ٩٠] . وَهَذِهِ دَلَالَةٌ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ بِاعْتِبَارِ مُثَارِ مَقَامَاتِ التَّكَلُّمِ بِهَا، وَهُوَ أَيْضًا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ.

وَلِذَلِكَ أُتْبِعَ بِالتَّذْيِيلِ بِوَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بالحلم وَالْمَغْفِرَة لما يَشْمَلُهُ صِفَةُ الْحَلِيمِ مِنْ حِلْمِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُزْعِجَهُمْ بِفَجَائِعَ عَظِيمَةٍ، وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ بِتَأْخِيرِ مُؤَاخَذَتِهِمْ فَإِنَّ التَّأْخِيرَ مِنْ أَثَرِ الْحِلْمِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ صِفَةُ الْغَفُورِ مِنْ أَنَّ فِي الْإِمْهَالِ إِعْذَارًا لِلظَّالِمِينَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ كَمَا

قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ» لَمَّا رَأَى مَلَكَ الْجِبَالِ فَقَالَ لَهُ: «إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ»

. وَفِعْلُ كانَ الْمُخْبَرُ بِهِ عَنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ مُفِيدٌ لِتَقَرُّرِ الِاتِّصَافِ بِالصِّفَتَيْنِ الْحُسْنَيَيْنِ