للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عَلَى اقْتِلَاعِ مَا يُثِيرُهُ الْجَوَابُ الثَّانِي فِي كَلَامِهِمَا بِعَدَمِ الْقَصْدِ إِلَى الْوَزْنِ، مِنْ لُزُومِ خَفَاءِ ذَلِكَ عَلَى عِلْمِ الله تَعَالَى فَلَمَّا ذَا لَا تُجْعَلُ فِي مَوْضِعِ تِلْكَ الْفِقْرَاتِ الْمُتَّزِنَةِ فِقْرَاتٌ سَلِيمَةٌ مِنَ الِاتِّزَانِ.

وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْخَائِضِينَ فِي وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ التَّصَدِّي لِاقْتِلَاعِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَقَدْ مَضَتْ عَلَيْهَا مِنَ الزَّمَانِ بُرْهَةٌ، وَكُنْتُ غَيْرَ مُقْتَنِعٍ بِتِلْكَ الرُّدُودِ وَلَا أَرْضَاهَا، وَأَرَاهَا غَيْرَ بَالِغَةٍ مِنْ غَايَةِ خَيْلِ الْحَلْبَةِ مُنْتَهَاهَا.

فَالَّذِي بَدَا لِي أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِأَفْصَحِ لُغَاتِ الْبَشَرِ الَّتِي تَوَاضَعُوا وَاصْطَلَحُوا عَلَيْهَا وَلَوْ أَنَّ كَلَامًا كَانَ أَفْصَحَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ أَوْ أُمَّةً كَانَتْ أَسْلَمَ طِبَاعًا مِنَ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ لَاخْتَارَهَا اللَّهُ لِظُهُورِ أَفْضَلِ الشَّرَائِعِ وَأَشْرَفِ الرُّسُلِ وَأَعَزِّ الْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ مُعْجِزًا لِبُلَغَاءِ الْعَرَبِ فَكَانَتْ تَرَاكِيبُهُ وَمَعَانِيهَا بِالِغَيْنِ حَدًّا يَقْصُرُ عَنْهُ كُلُّ بَلِيغٍ مِنْ بُلَغَائِهِمْ عَلَى مَبْلَغِ مَا تَتَّسِعُ لَهُ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ فَصَاحَةً وَبَلَاغَةً فَإِذَا كَانَتْ نِهَايَةُ مُقْتَضَى الْحَالِ فِي مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الْكَلَامِ تَتَطَلَّبُ لِإِيفَاءِ حَقِّ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ أَلْفَاظًا وَتَرْكِيبًا وَنَظْمًا فَاتَّفَقَ أَنْ كَانَ لِمَجْمُوعِ حَرَكَاتِهَا وَسُكُونَاتِهَا مَا كَانَ جَارِيًا عَلَى مِيزَانِ الشِّعْرِ الْعَرَبِيِّ فِي أَعَارِيضِهِ وَضُرُوبِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْكَلَامُ مَعْدُودًا مِنَ الشِّعْرِ لَوْ وَقَعَ مِثْلُهُ فِي كَلَامٍ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَوُقُوعُهُ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ قَدْ لَا يَتَفَطَّنُ إِلَيْهِ قَائِلُهُ وَلَوْ تَفَطَّنَ لَهُ لَمْ يَعْسُرْ تَغْيِيرُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ غَايَةَ مَا يَقْتَضِيِهِ الْحَالُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قُصِدَ بِهِ تَفَنُّنًّا فِي الْإِتْيَانِ بِكَلَامٍ ظَاهِرُهُ نَثْرٌ وَتَفْكِيكُهُ نَظْمٌ.

فَأَمَّا وُقُوعُهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَخَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ وُقُوعُهُ فِي كَلَامٍ أَوْحَى بِهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَبْدِيلُ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ مِنَ الْأَلْفَاظِ بِغَيْرِهِ لِأَنَّ مَجْمُوعَهَا هُوَ جَمِيعُ مَا اقْتَضَاهُ الْحَالُ وَبَلَغَ حَدَّ الْإِعْجَازِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَشْتَمِلَ الْكَلَامُ الْمُوحَى بِهِ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى مُحَسِّنِ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّثْرِ وَالنَّظْمِ لِأَنَّهُ أَرَادَ تَنْزِيهَ كَلَامِهِ عَنْ شَائِبَةِ الشِّعْرِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي أَنْ لَا يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنَ الشِّعْرِ مَعَ أَنَّ الْمُتَحَدَّيْنَ بِهِ بُلَغَاءُ الْعَرَبِ