للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَإِنَّمَا بَرَزَ هَذَا الِابْتِلَاءُ فِي صُورَةِ الْوَحْيِ الْمَنَامِيِّ إِكْرَامًا لِإِبْرَاهِيمَ عَنْ أَنْ يُزْعَجَ بِالْأَمْرِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ بِوَحْيٍ فِي الْيَقَظَةِ لِأَنَّ رُؤَى الْمَنَامِ يَعْقُبُهَا تَعْبِيرُهَا إِذْ قَدْ تَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى رُمُوزٍ خَفِيَّةٍ وَفِي ذَلِكَ تَأْنِيسٌ لِنَفْسِهِ لِتَلَقِّي هَذَا التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ عَلَيْهِ وَهُوَ ذَبْحُ ابْنِهِ الْوَحِيدِ.

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَانْظُرْ مَاذَا تَرى فَاءُ تَفْرِيعٍ، أَوْ هِيَ فَاءُ الْفَصِيحَةِ، أَيْ إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى. وَالنَّظَرُ هُنَا نَظَرُ الْعَقْلِ لَا نَظَرُ الْبَصَرِ فَحَقُّهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَلَكِنْ عَلَّقَهُ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْعَمَلِ. وَالْمَعْنَى: تَأَمَّلْ فِي الَّذِي تُقَابِلُ بِهِ هَذَا الْأَمْرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمَّا تَعَلَّقَ بِذَاتِ الْغُلَامِ كَانَ لِلْغُلَامِ حَظٌّ فِي الِامْتِثَالِ وَكَانَ عَرْضُ إِبْرَاهِيمَ هَذَا عَلَى ابْنه عرض اختبار لِمِقْدَارِ طَوَاعِيَتِهِ بِإِجَابَةِ أَمْرِ اللَّهِ فِي ذَاتِهِ لِتَحْصُلَ لَهُ بِالرِّضَى وَالِامْتِثَالِ مَرْتَبَةُ بَذْلِ نَفْسِهِ فِي إِرْضَاءِ اللَّهِ وَهُوَ لَا يَرْجُو مِنِ ابْنِهِ إِلَّا الْقَبُولَ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِصَلَاحِ ابْنِهِ وَلَيْسَ إِبْرَاهِيمُ مَأْمُورًا بِذَبْحِ ابْنِهِ جَبْرًا، بَلِ الْأَمْرُ بِالذَّبْحِ تَعَلَّقَ بِمَأْمُورَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِتَلَقِّي الْوَحْيِ، وَالْآخَرُ بِتَبْلِيغِ الرَّسُولِ إِلَيْهِ، فَلَوْ قَدَّرَ عِصْيَانَهُ لَكَانَ حَالُهُ فِي ذَلِكَ حَالَ ابْنِ نُوحٍ الَّذِي أَبَى أَنْ يَرْكَبَ السَّفِينَةَ لَمَّا دَعَاهُ أَبُوهُ فَاعْتُبِرَ كَافِرًا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَاذَا تَرى بِفَتْحِ التَّاءِ وَالرَّاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ مَاذَا تُرِينِي مِنَ امْتِثَالٍ أَوْ عَدَمِهِ. وَحُكِيَ جَوَابُهُ فَقَالَ: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ دُونَ عَطْفٍ، جَرْيًا عَلَى حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠] .

وَابْتِدَاءُ الْجَوَابِ بِالنِّدَاءِ وَاسْتِحْضَارُ الْمُنَادَى بِوَصْفِ الْأُبُوَّةِ وَإِضَافَةُ الْأَبِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَوَّضِ عَنْهَا التَّاءُ الْمُشْعِرُ تَعْوِيضُهَا بِصِيغَةِ تَرْقِيقٍ وَتَحَنُّنٍ.

وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الذَّبْحِ بِالْمَوْصُولِ وَهُوَ مَا تُؤْمَرُ دُونَ أَنْ يَقُولَ: اذْبَحْنِي، يُفِيدُ وَحْدَهُ

إِيمَاءً إِلَى السَّبَبِ الَّذِي جَعَلَ جَوَابَهُ امْتِثَالًا لِذَبْحِهِ.