للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مُرَاعَاةِ حُظُوظِ النَّفْسِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ إبعادا لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَهَاوِي الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ وَتَأْدِيبًا لَهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ وَآخِرِهِ مِمَّا أَنْ يَتَلَقَّى بِالْعَذَلِ. وَكَانَ دَاوُدُ أَيْضًا قَدْ صَبَرَ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنْ حَسَدِ شَاوِلَ (طَالُوتَ) مَلِكِ إِسْرَائِيلَ إِيَّاهُ عَلَى انْتِصَارِهِ عَلَى جَالُوتَ مَلِكِ فِلَسْطِينَ.

فَالْمَصْدَرُ الْمُتَصَرِّفُ مِنْهُ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ هُوَ الذُّكْرُ بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ التَّذَكُّرُ

وَلَيْسَ هُوَ ذِكْرَ اللِّسَانِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ لِتَسْلِيَتِهِ وَحِفْظِ كَمَالِهِ لَا لِيُعْلِمَهُ الْمُشْرِكِينَ وَلَا لِيُعْلِمَهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ حَاصِلٌ تَبَعًا حِينَ إِبْلَاغِ الْمُنَزَّلِ فِي شَأْنِ دَاوُدَ إِلَيْهِمْ وَقِرَاءِتِهِ عَلَيْهِمْ. وَمَعْنَى الْأَمْرِ بِتَذَكُّرِ ذَلِكَ تَذَكُّرُ مَا سَبَقَ إِعْلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ مِنْ فَضَائِلِهِ وَتَذْكِيرُ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ لَمْ يَعْلَمْهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

وَوَصْفُ دَاوُدَ بِ عَبْدَنا وَصْفُ تَشْرِيفٍ بِالْإِضَافَةِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ:

إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٤٠] .

والْأَيْدِ: الْقُوَّةُ وَالشِّدَّةُ، مَصْدَرُ: آدَ يَئِيدُ، إِذَا اشْتَدَّ وَقَوِيَ، وَمِنْهُ التَّأْيِيدُ التقوية، قَالَ تَعَالَى: فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٢٦] .

وَكَانَ دَاوُدُ قَدْ أُعْطِيَ قُوَّةً نَادِرَةً وَشَجَاعَةً وَإِقْدَامًا عَجِيبَيْنِ وَكَانَ يَرْمِي الْحَجَرَ بالمقلاع فَلَا يخطىء الرَّمْيَةَ، وَكَانَ يَلْوِي الْحَدِيدَ لِيَصْنَعَهُ سَرْدًا لِلدُّرُوعِ بِأَصَابِعِهِ، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ مَحْمُودَةٌ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهَا فِي نَصْرِ دِينِ التَّوْحِيدِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّهُ أَوَّابٌ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِذِكْرِهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِقَصْدِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَام: ٩٠] ، فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَاذْكُرْ وَجُمْلَةِ بَيَانِهَا وَهِيَ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ.

وَالْأَوَّابُ: الْكَثِيرُ الْأَوْبِ، أَيِ الرُّجُوعِ. وَالْمُرَادُ: الرُّجُوعُ إِلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِهِ وَتَدَارُكُ مَا فَرَّطَ فِيهِ. وَالتَّائِبُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْأَوَّابُ، وَهُوَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مَجَازٌ وَلَا تُسَمَّى التَّوْبَة أوبا، و «زبور» دَاوُدَ الْمُسَمَّى عِنْد الْيَهُود ب «المزامير» مُشْتَمِلٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ التَّوْبَةِ.