للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الشَّهَوَاتِ، وَهُوَ إِعْرَاضٌ عَسِيرٌ لَا يَسْلُكُهُ إِلَّا مَنْ سَمَا بِدِينِهِ وَهِمَّتِهِ إِلَى الشَّرَفِ النَّفْسَانِيِّ وَأَعْرَضَ عَنِ الدَّاعِي الشَّهْوَانِيِّ، فَذَلِكَ هُوَ الْعِلَّةُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِالْقِلَّةِ.

وَزِيَادَةُ مَا بَعْدَ قَلِيلٌ لِقَصْدِ الْإِبْهَامِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: جُنْدٌ مَا هُنالِكَ [ص: ١١] ، وَفِي هَذَا الْإِبْهَامِ إِيذَانٌ بِالتَّعَجُّبِ مِنْ ذَلِكَ بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ وَالْمَقَامِ كَمَا أَفَادَتْ زِيَادَتُهَا فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

وَحَدِيثُ الرَّكْبِ يَوْمَ هُنَا ... وَحَدِيثٌ مَا عَلَى قِصَرِهْ

مَعْنَى التَّلَهُّفِ وَالتَّشَوُّقِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَاهِيَّة هاذين الْخَصْمَيْنِ، فَقَالَ السُّدِّيُّ وَالْحَسَنُ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَا مَلَكَيْنِ أَرْسَلَهُمَا اللَّهُ فِي صُورَةِ رَجُلَيْنِ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِإِبْلَاغِ هَذَا الْمَثَلِ إِلَيْهِ عِتَابًا لَهُ. وَرَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. وَقَيلَ كَانَا أَخَوَيْنِ شَقِيقَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَيْ أَلْهَمَهُمَا اللَّهُ إِيقَاعَ هَذَا الْوَعْظِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ سَوْقَ هَذَا النَّبَأِ عَقِبَ التَّنْوِيهِ بِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ إِلَّا تَتْمِيمًا لِلتَّنْوِيهِ بِهِ لِدَفْعِ مَا قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَنْقُضُ مَا ذَكَرَ مِنْ فَضَائِلِهِ مِمَّا جَاءَ فِي كِتَابِ «صَمْوِيلَ الثَّانِي» مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ أَغْلَاطٍ بَاطِلَةٍ تُنَافِي مَقَامَ النُّبُوءَةِ فَأُرِيدَ بَيَانُ الْمِقْدَارِ الصَّادِقِ مِنْهَا وَتَذْيِيلُهُ بِأَنَّ مَا صَدَرَ عَنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسْتَوْجِبُ الْعِتَابَ وَلَا يَقْتَضِي الْعِقَابَ وَلِذَلِكَ خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص: ٤٠] . وَبِهَذَا

تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ لِهَذَا النَّبَأِ تَعَلُّقٌ بِالْمَقْصِدِ الَّذِي سِيقَ لِأَجْلِهِ ذِكْرُ دَاوُدَ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.

وَهَذَا النَّبَأُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ يُشِيرُ بِهِ إِلَى قِصَّةِ تَزَوُّجِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ زَوْجَةَ (أُورَيَا الْحَثِّيِّ) مِنْ رِجَالِ جَيْشِهِ وَكَانَ دَاوُدُ رَآهَا فَمَالَ إِلَيْهَا وَرَامَ تَزَوُّجَهَا فَسَأَلَهُ أَنْ يَتَنَازَلَ لَهُ عَنْهَا وَكَانَ فِي شَرِيعَتِهِمْ مُبَاحًا أَنَّ الرَّجُلَ يَتَنَازَلُ عَنْ زَوْجِهِ إِلَى غَيْرِهِ لِصَدَاقَةٍ بَيْنَهُمَا فَيُطَلِّقُهَا وَيَتَزَوَّجُهَا الْآخَرُ بَعْدَ مُضِيِّ عِدَّتِهَا وَتَحَقُّقِ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا كَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ.

وَخَرَجَ أُورَيَا فِي غَزْوِ مَدِينَةِ (رَبَّةَ) لِلْعَمُونِيِّينَ وَقِيلَ فِي غَزْوِ