للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ الَّتِي شَأْنُهَا الْعُصُوفُ، فَمَعْنَى فَسَخَّرْنا لَهُ جَعَلْنَاهَا لَهُ رُخَاءً. فَانْتَصَبَ عاصِفَةً فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الرِّيحَ وَهِيَ حَالٌ مُنْتَقِلَةٌ. وَلَمَّا أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: تَجْرِي بِأَمْرِهِ عُلِمَ

أَنَّ عَصْفَهَا يَصِيرُ إِلَى لِينٍ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ، أَيْ دُعَائِهِ، أَوْ بعزمه، أَو رغبته لِأَنَّهُ لَا تَصْلُحُ لَهُ أَنْ تَكُونَ عَاصِفَةً بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَهَذَا وَجْهُ دَفْعِ التَّنَافِي بَيْنَ الْحَالَيْنِ فِي الْآيَتَيْنِ.

وأَصابَ مَعْنَاهُ قَصَدَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّوْبِ، أَيِ الْجِهَةِ، أَيْ تَجْرِي إِلَى حَيْثُ أَيِّ جِهَةٍ قَصَدَ السَّيْرَ إِلَيْهَا. حَكَى الْأَصْمَعِيُّ عَنِ الْعَرَبِ: «أَصَابَ الصَّوَابَ فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ» أَيْ أَرَادَ الصَّوَابَ فَلَمْ يُصِبْ. وَقِيلَ: هَذَا اسْتِعْمَالٌ لَهَا فِي لُغَةِ حِمْيَرَ، وَقِيلَ فِي لُغَةِ هَجَرَ.

والشَّياطِينَ جَمْعُ شَيْطَانٍ، وَحَقِيقَتُهُ الْجِنِّيُّ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا لِلْبَالِغِ غَايَةَ الْمَقْدِرَةِ وَالْحِذْقِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نبيء عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الْأَنْعَام: ١١٢] ، فَسَخَّرَ اللَّهُ النَّوْعَ الْأَوَّلَ لِسُلَيْمَانَ تَسْخِيرًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ فَهُوَ مُسَخَّرٌ لَهُ فِي الْأُمُورِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْخَفِيَّةِ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ جِنْسِهِمْ إِيجَادُ الصِّنَاعَاتِ الْمُتْقَنَةِ كَالْبِنَاءِ، وَسَخَّرَ النَّوْعَ الثَّانِي لَهُ تَسْخِيرَ إِذْلَالٍ وَمَغْلُوبِيَّةٍ لِعِظَمِ سُلْطَانِهِ وَإِلْقَاءِ مَهَابَتِهِ فِي قُلُوبِ الْأُمَمِ فَكَانُوا يَأْتُونَ طَوْعًا لِلِانْضِوَاءِ تَحْتَ سُلْطَانِهِ كَمَا فَعَلَتْ بِلْقِيسُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ سَبَأٍ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّياطِينَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.

وكُلَّ بَنَّاءٍ بَدَلٌ مِنَ الشَّياطِينَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، أَيْ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ مِنْهُمْ، أَي مِنَ الشَّيَاطِينِ. وكُلَّ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْكَثِيرِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْكَلَامِ الْفَصِيحِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يُونُس: ٩٧] وَقَالَ: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [النَّحْل: ٦٩] . وَقَالَ النَّابِغَةُ:

بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ