للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَهَذَا يَتَضَمَّنُ امْتِنَانًا عَلَى الْأُمَّةِ بِأَنَّ أَغْرَاضَ كِتَابِهَا مُكَرَّرَةٌ فِيهِ لِتَكُونَ مَقَاصِدُهُ أَرْسَخُ فِي نُفُوسِهَا، وَلِيَسْمَعُهَا مَنْ فَاتَهُ سَمَاعُ أَمْثَالِهَا مِنْ قَبْلُ. وَيَتَضَمَّنُ أَيْضًا تَنْبِيهًا عَلَى نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي إِعْجَازِهِ، وَهِيَ عَدَمُ الْمَلَلِ مِنْ سَمَاعِهِ وَأَنَّهُ كُلَّمَا تَكَرَّرَ غَرَضٌ مِنْ أَغْرَاضِهِ زَادَهُ تَكَرُّرُهُ قَبُولًا وَحَلَاوَةً فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ. فَكَأَنَّهُ الْوَجْهُ الْحَسَنُ الَّذِي قَالَ فِي مِثْلِهِ أَبُو نُوَاسٍ:

يَزِيدُكَ وَجْهُهُ حُسْنًا ... إِذَا مَا زِدْتَهُ نَظَرَا

وَقَدْ عَدَّ عِيَاضٌ فِي كِتَابِ «الشِّفَاءِ» مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ: أَنَّ قَارِئَهُ لَا يَمَلُّهُ وَسَامِعَهُ لَا يَمَجُّهُ، بَلِ الْإِكْبَابُ عَلَى تِلَاوَتِهِ يَزِيدُهُ حَلَاوَةً، وَتَرْدِيدُهُ يُوجِبُ لَهُ مَحَبَّةً، لَا يَزَالُ غَضًّا طَرِيًّا، وَغَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ وَلَوْ بَلَغَ مِنَ الْحُسْنِ وَالْبَلَاغَةِ مَبْلَغًا عَظِيمًا يُمَلُّ مَعَ التَّرْدِيدِ

وَيُعَادَى إِذَا أُعِيدَ، وَلِذَا

وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ: «بِأَنَّهُ لَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَرْفُوعًا.

وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ سَمِعَ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النَّحْل: ٩٠] الْآيَةَ فَقَالَ: «وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةٌ وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةٌ»

. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ وَصْفَ الْقُرْآنِ هُنَا بِكَوْنِهِ مَثَانِيَ هُوَ غَيْرُ الْوَصْفِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الْحجر: ٧٨] لِاخْتِلَافِ مَا أُرِيدَ فِيهِ بِالتَّثْنِيَةِ وَإِنْ كَانَ اشْتِقَاقُ الْوَصْفِ مُتَّحِدًا.

وَوُصِفَ كِتاباً وَهُوَ مُفْرِدٌ بِوَصْفِ مَثانِيَ وَهُوَ مُقْتَضٍ التَّعَدُّدَ يُعَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ جَرَى عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَجْزَائِهِ، أَيْ سُوَرِهِ أَوْ آيَاتِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ غَرَضٍ مِنْهُ يُكَرَّرُ، أَيْ بِاعْتِبَارِ تَبَاعِيضِهِ.

الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ، وَهَذَا الْوَصْفُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوَصْفِ قَبْلَهُ وَهُوَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مَثَانِيَ، أَيْ مُثَنَّى الْأَغْرَاضِ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثِ جِهَاتٍ:

أُولَاهَا: وَصْفُ الْقُرْآنِ بِالْجَلَالَةِ وَالرَّوْعَةِ فِي قُلُوبِ سَامِعِيهِ، وَذَلِكَ لِمَا فِي آيَاتِهِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْمَوْعِظَةِ الَّتِي تَوْجَلُ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَهُوَ وَصْفُ كَمَالٍ لِأَنَّهُ مِنْ آثَارِ قُوَّةِ