للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزمر: ٢٢] ، وَالْقَوْلُ فِيهِ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي سَابِقِهِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ وَحَذْفِ الْخَبَرِ، وَتَقْدِيرُهُ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَضَلَّهُ كَمَنْ أَمِنَ مِنَ الْعَذَابِ لِأَنَّ اللَّهَ هَدَاهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ [مُحَمَّد: ١٤] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ اهْتَدَوْا لَا يَنَالَهُمُ الْعَذَابُ.

وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: ٢٣] تَفْرِيعًا لِتَعْيِينِ مَا صَدَقَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَيكون فَمَنْ يَتَّقِي خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: أَفَهُوَ مَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ.

وَالِاتِّقَاءُ: تُكَلُّفُ الْوِقَايَةِ وَهِيَ الصَّوْنُ وَالدَّفْعُ، وَفِعْلُهَا يَتَعَدَّى إِلَى مفعولين، يُقَال:

وَفِي نَفْسَهُ ضَرْبَ السَّيْفِ، وَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ إِلَى سَبَبِ الْوِقَايَةِ، يُقَالُ: وَقَى بِتُرْسِهِ، وَقَالَ النَّابِغَةُ:

سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ

وَإِذَا كَانَ وَجْهُ الْإِنْسَانِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوقَى بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْجَسَدِ، إِذِ الْوَجْهُ أَعَزُّ مَا فِي الْجَسَدِ وَهُوَ يُوقَى وَلَا يُتَّقَى بِهِ فَإِنَّ مِنْ جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ إِذَا تَوَقَّعَ مَا يُصِيبُ جَسَدَهُ سَتَرَ وَجْهَهُ خَوْفًا عَلَيْهِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّقَاءُ بِالْوَجْهِ مُسْتَعْمَلًا كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ الْوِقَايَةِ عَلَى طَرِيقَةِ التهكم أَو التلميح، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يَطْلُبِ وِقَايَةَ وَجْهِهِ فَلَا يَجِدُ مَا يَقِيهِ بِهِ إِلَّا وَجْهَهُ، وَهَذَا مِنْ إِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ نَفْيَهُ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الْكَهْف: ٢٩] .

وسُوءَ الْعَذابِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ يَتَّقِي. وَأَصْلُهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ إِذْ أَصْلُهُ: وَقَى نَفْسَهُ سُوءَ الْعَذَابِ، فَلَمَّا صِيغَ مِنْهُ الِافْتِعَالُ صَارَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ هُوَ الَّذِي كَانَ مَفْعُولًا ثَانِيًا.

وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَقِيلَ عَطْفًا عَلَى الصِّلَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ، وَقِيلَ لَهُمْ فَإِنَّ (مَنْ) مُرَادٌ بِهَا جمع، وَالتَّعْبِير بالظالمين إِظْهَارٌ فِي