للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْجَاذِبِيَّةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي سَيْرِ مَجْمُوعِ هَاتِهِ السَّيَّارَاتِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْتَرِيهِ خَلَلٌ وَلَا خَرْقٌ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: ٤٠] ، وَأَعْظَمُ تِلْكَ الْأَسْرَارِ تَكْوِينُهَا عَلَى هَيْئَةِ كُرَيَّةٍ قَالَ الْفَخْرُ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْحُسَامِ يَقْرَأُ «كِتَابَ الْمِجَسْطِيِّ» عَلَى عُمَرَ الْأَبْهَرِيِّ فَقَالَ لَهُمَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَوْمًا مَا الَّذِي تَقْرَءُونَهُ فَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ أُفَسِّرُ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها [ق:

٦] فَأَنَا أُفَسِّرُ كَيْفِيَّةَ بِنَائِهَا وَلَقَدْ صَدَقَ الْأَبْهَرِيُّ فِيمَا قَالَ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَوَغُّلًا فِي بِحَارِ

الْمَخْلُوقَاتِ كَانَ أَكْثَرَ عِلْمًا بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ اه.

قُلْتُ وَمِنْ بَدِيعِ هَذَا الْخَلْقِ أَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَمُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا بِمَا يَحْتَاجُهُ كُلٌّ فَلَا يَنْقُصُ مِنَ الْمُمِدِّ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ يمده غَيره يما يُخْلِفُ لَهُ مَا نَقَصَ، وَهَكَذَا نَجِدُ الْمَوْجُودَاتِ مُتَفَاعِلَةً، فَالْبَحْرُ يُمِدُّ الْجَوَّ بِالرُّطُوبَةِ فَتَكُونُ مِنْهُ الْمِيَاهُ النَّازِلَةُ ثُمَّ هُوَ لَا يَنْقُصُ مَعَ طُولِ الْآبَادِ لِأَنَّهُ يُمِدُّهُ كُلُّ نَهْرٍ وَوَادٍ.

وَهِيَ آيَةٌ لِمَنْ كَانَ فِي الْعَقْلِ دُونَ هَاتِهِ الْمَرْتَبَةِ فَأَدْرَكَ مِنْ مَجْمُوعِ هَذَا الْخَلْقِ مَشْهَدًا بَدِيعًا فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَظُهُورِ الْكَوَاكِبِ فِي الْجَوِّ وَغُرُوبِهَا.

وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا يَحُفُّ بِهَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ كَالنُّجُومِ الثَّوَابِتِ وَالشُّهُبِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ جِبَالٍ وَبِحَارٍ وَأَنْهَارٍ وَحَيَوَانٍ فَذَلِكَ مِنْ تَفَارِيعِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ.

وَقَوْلُهُ: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ تَذْكِيرٌ بِآيَةٍ أُخْرَى عَظِيمَةٍ لَا تَخْفَى على أحد من الْعُقَلَاءِ وَهِيَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَعْنِي اخْتِلَافَ حَالَتَيِ الْأَرْضِ فِي ضِيَاءٍ وَظُلْمَةٍ، وَمَا فِي الضِّيَاءِ مِنَ الْفَوَائِدِ لِلنَّاسِ وَمَا فِي الظُّلْمَةِ مِنَ الْفَوَائِدِ لَهُمْ لِحُصُولِ سُكُونِهِمْ وَاسْتِرْجَاعِ قُوَاهُمُ الْمَنْهُوكَةِ بِالْعَمَلِ.

وَفِي ذَلِكَ آيَةٌ لِخَاصَّةِ الْعُقَلَاءِ إِذْ يَعْلَمُونَ أَسْبَابَ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى الْأَرْضِ وَأَنَّهُ مِنْ آثَارِ دَوَرَانِ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلِهَذَا جُعِلَتِ الْآيَةُ فِي اخْتِلَافِهِمَا وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا آيَةٌ.

وَالِاخْتِلَافُ افْتِعَالٌ مِنَ الْخَلْفِ وَهُوَ أَن يجيئ شَيْءٌ عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ آخَرَ يَخْلُفُهُ فِي مَكَانِهِ وَالْخِلْفَةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْخَلْفُ قَالَ زُهَيْرٌ:

«بِهَا الْعِينُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً»