للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالشَّكِّ، أَيْ دُونَ بَذْلِ الْجُهْدِ فِي تَحْصِيلِ الْيَقِينِ، فَلَمْ يَزَلِ الشَّكُّ دَأْبَهُمْ. فَالْمُخْبَرُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ:

هُمُ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ سَلَفِهِمْ.

وَقَدْ جَاءَ نَظْمُ الْآيَةِ عَلَى أسلوب إيجاز يتَحَمَّل هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهَا، فَجِيءَ بِضَمِيرِ مِنْهُ بَعْدَ تَقَدُّمِ أَلْفَاظٍ صَالِحَةٍ لِأَنْ تَكُونَ مَعَادَ ذَلِكَ الضَّمِيرِ، وَهِيَ لَفْظُ الدِّينِ فِي قَوْلِهِ مِنَ الدِّينِ [الشورى: ١٣] ، وَلَفْظُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى: ١٣] ، وَمَا الْمَوْصُولَةُ فِي قَوْلِهِ: مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: ١٣] ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَدْلُولُهَا الْإِسْلَامُ. وَهُنَالِكَ لَفْظُ مَا وَصَّيْنا [الشورى: ١٣] الْمُتَعَدِّي إِلَى مُوسَى وَعِيسَى، وَلَفْظُ الْكِتابَ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا (١) الْكِتابَ. وَهَذَانَ مَدْلُولُهُمَا كِتَابَا أَهْلِ الْكِتَابِ.

وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ هُمُ الْمَوْجُودُونَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي شكّ ناشىء مِنْ تِلْكَ الْمُعَادَاتِ لِلضَّمِيرِ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَبْلَغَ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ لَا يَتَجَاوَزُ حَالَةَ الشَّكِّ فِي صِدْقِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، أَيْ لَيْسُوا مَعَ ذَلِكَ بِمُوقِنِينَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ

بَاطِلٌ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَدَّدُوا ثُمَّ أَقْدَمُوا عَلَى التَّكْذِيبِ بِهِ حَسَدًا وَعِنَادًا. فَمِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ حَالُهُمْ فِي الشَّكِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ حَقٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ١٤٦] . وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى لَفِي شَكٍّ بِصِدْقِ الْقُرْآنِ أَوْ فِي شَكٍّ مِمَّا فِي كِتَابِهِمْ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَفَرَّقُوا فِيهَا، أَوْ مَا فِي كِتَابِهِمْ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَجِيءِ النَّبِيءِ الْمَوْعُودِ بِهِ وَصِفَاتِهِ. فَهَذِهِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ تَتَحَمَّلُهَا الْآيَةُ وَكُلُّهَا مُنْطَبِقَةٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا دَاعِيَ إِلَى صَرْفِ كَلِمَةِ شَكٍّ عَنْ حَقِيقَتِهَا.

وَمَعْنَى أُورِثُوا الْكِتابَ صَارَ إِلَيْهِمْ عِلْمُ الْكِتَابِ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ سَلَفُهُمْ فَاسْتُعِيرَ الْإِرْثُ لِلْخَلَفِيَّةِ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتابَ لِلْجِنْسِ لِيَشْمَلَ كِتَابَ الْيَهُودِ وَكِتَابَ النَّصَارَى.


(١) فِي المطبوعة أُوتُوا وَهُوَ خطأ.