للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَوْلُهُ: وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ عَطْفٌ عَلَى وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أَوْ عَلَى الرِّياحِ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَتَصْرِيفِ السَّحَابِ الْمُسَخَّرِ أَيْ نَقْلِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ. وَهُوَ عِبْرَةٌ وَمِنَّةٌ أَمَّا الْعِبْرَةُ فَفِي تَكْوِينِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَتَسْخِيرِهِ وَكَوْنِهِ فِي الْفَضَاءِ، وَأَمَّا الْمِنَّةُ فَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَتَكْوِينُهُ مِنَّةٌ وَتَسْخِيرُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعِ مِنَّةٌ وَكَوْنُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنَّةٌ لِأَنَّهُ يَنْزِلُ مِنْهُ الْمَطَرُ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ ارْتِفَاعٍ فَيُفِيدُ اخْتِرَاقَ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى

سَطْحِ الْأَرْضِ لَاخْتَنَقَ النَّاسُ فَهَذَا مَا يَبْدُو لِكُلِّ أَحَدٍ، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا عِبْرَةٌ وَمِنَّةٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فَتَكْوِينُهُ عِبْرَةٌ لَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَتَكَوَّنُ مِنْ تَصَاعُدِ أَبْخِرَةِ الْبِحَارِ وَرُطُوبَةِ الْأَرْضِ الَّتِي تُبَخِّرُهَا أَشِعَّةُ الشَّمْسِ وَلِذَا لَمْ يَخْلُ الْهَوَاءُ مِنْ بُخَارِ الْمَاءِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ إِلَّا أَنَّ بُخَارَ الْمَاءِ شَفَّافٌ غَازِيٌّ فَإِذَا جَاوَرَ سَطْحًا بَارِدًا ثَقُلَ وَتَكَاثَفَ فَصَارَ ضَبَابًا أَوْ نَدًى أَوْ سَحَابًا، وَإِنَّمَا تَكَاثَفَ لِأَنَّ أَجْزَاءَ الْبُخَارِ تَجْتَمِعُ فَتَقِلُّ قُدْرَةُ الْهَوَاءِ عَلَى حَمْلِهِ، ثُمَّ إِذَا تَكَامَلَ اجْتِمَاعُهُ نَزَلَ مَطَرًا، وَلِكَوْنِ الْبُخَارِ الصَّاعِدِ إِلَى الْجَوِّ أَكْثَرَ بُخَارِ الْبَحْرِ لِأَنَّ الْبَحْرَ أَكْثَرُ سَطْحِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ كَانَتِ السَّحْبُ أَكْثَرَ مَا تَتَكَوَّنُ مِنْ جِهَةِ الْبِحَارِ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْمَطَرَ كُلَّهُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ وَأَنَّ خَرَاطِيمَ السَّحَابِ تَتَدَلَّى إِلَى أَمْوَاجِ الْبَحْرِ فَتَمْتَصُّ مِنْهُ الْمَاءَ ثُمَّ يَنْزِلُ مَطَرًا. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ:

سَقَى أُمَّ عَمْرٍو كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ ... حَنَاتِمُ سُودٌ مَاؤُهُنَّ ثَجِيجُ

شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ ... مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ

وَقَالَ الْبَدِيعُ الْإِصْطِرْلَابِيُّ (١) :

أُهْدِي لِمَجْلِسِكَ الشَّرِيفِ وَإِنَّمَا ... أُهْدِي لَهُ مَا حُزْتُ مِنْ نَعْمَائِهِ

كَالْبَحْرِ يمطره السَّحَاب وَمَاله ... فَضْلٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ مَائِهِ

فَلَوْلَا الرِّيَاحُ تُسَخِّرُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ لَكَانَ الْمَطَرُ لَا يَنْزِلُ إِلَّا فِي الْبِحَارِ.

وَمَوْضِعُ الْمِنَّةِ فِي هَذَا فِي تَكْوِينِهِ حَتَّى يَحْمِلَ الْمَاءَ لِيُحْيِيَ الْأَرْضَ، وَفِي تَسْخِيرِهِ لِيَنْتَقِلَ، وَفِي كَوْنِهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ مُسَخَّرٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى يَتَكَامَلَ مَا فِي الْجَوِّ مِنَ الْمَاءِ فَيَثْقُلُ السَّحَابُ فَيَنْزِلُ مَاءٌ إِذَا لَمْ تَبْقَ فِي الْهَوَاءِ مَقْدِرَةٌ عَلَى حَمْلِهِ قَالَ تَعَالَى:

وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ [الرَّعْد: ١٢] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أَيْ دَلَائِلَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْآيَةِ وَالْآيَاتِ،


(١) هبة الله بن الْحُسَيْن لقب بالبديع وَوصف بالاصطرلابي لِأَنَّهُ صانع آلَة الأصطرلاب توفّي سنة ٥٣٤ هـ. [.....]