للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَكْسِبُونَ، فَعَدَلَ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِيَكُونَ لَفْظُ قَوْماً مُشْعِرًا بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَضْيَعَةٍ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ لَفْظَ (قَوْمٍ) مُشْعِرٌ بِفَرِيقٍ لَهُ قِوَامُهُ وَعِزَّتُهُ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا [مُحَمَّد: ١١] .

وَتَنْكِيرُ قَوْماً لِلتَّعْظِيمِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لِيَجْزِيَ أَيَّمَا قَوْمٍ، أَيْ قَوْمًا مَخْصُوصِينَ. وَهَذَا مَدْحٌ لَهُمْ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ. وَنَحْوُهُ مَا ذَكَرَ الطِّيبِيُّ عَنِ ابْنِ جِنِّي عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

أَفَآتٍ بَنُو مَرْوَانَ ظُلْمًا دِمَاءَنَا ... وَفِي اللَّهِ إِنْ لَمْ يَعْدِلُوا حُكْمَ عَدْلِ

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ تَعَالَى أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ وَسَمَّاهُ الشَّاعِرُ: حُكْمًا عَدْلًا وَأَخْرَجَ اللَّفْظَ مَخْرَجَ التَّنْكِيرِ، أَلَا تَرَى كَيْفَ آلَ الْكَلَامُ مِنْ لَفْظِ التَّنْكِيرِ إِلَى معنى التَّعْرِيف اهـ. قيل:

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْماً مُرَادٌ بِهِ الْإِبْهَامُ وَتَنْوِينُهُ لِلتَّنْكِيرِ فَقَطْ.

وَالْمَعْنَى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ بِمَا يُنَاسِبُ كَسْبِهِمْ فَيَكُونُ وَعِيدًا لِلْمُشْرِكِينَ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَوَعْدًا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمَأْمُورِينَ بِالصَّفْحِ وَالتَّجَاوُزِ عَنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ، وَهَذَا وَجْهُ عَدَمِ تَعْلِيقِ الْجَزَاءِ بِضَمِيرِ الْمُوقِنِينَ لِأَنَّهُ أُرِيدَ الْعُمُومُ فَلَيْسَ ثَمَّةَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت: ٤٦] . وَهَذَا كَالتَّفْصِيلِ لِلْإِجْمَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُعْطَفْ عَلَى سَابِقَتِهَا، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: أَيَّامَ اللَّهِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِنُونِ الْعَظَمَةِ فِي أَوَّلِهِ عَلَى الِالْتِفَاتِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَر بتحتية فِي أَوَّلِهِ مَضْمُومَةٍ وَبِفَتْحِ الزَّايِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَنَصَبَ قَوْماً. وَتَأْوِيلُهَا أَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ مَصْدَرٌ مَأْخُوذٌ مِنْ فِعْلِ (يَجْزِي) .

وَالتَّقْدِيرُ: لِيَجْزِيَ الْجَزَاءَ. وقَوْماً مَفْعُولٌ ثَانٍ لِفِعْلِ (يَجْزِي) مِنْ بَابِ كَسَا وَأَعْطَى.

وَلَيْسَ هَذَا مِنْ إِنَابَةِ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ وَقَدْ مَنَعَهُ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ بَلْ جُعِلَ الْمَصْدَرُ مَفْعُولًا أَوَّلَ مِنْ بَابِ أَعْطَى وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مَفْعُولٌ ثَانٍ لِفِعْلِ جَزَى، وَإِنَابَةُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي فِي بَابِ كَسَا وَأَعْطَى مُتَّفَقٌِِ