للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(١٧٧)

قَدَّمَنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَة: ١٥٣] أَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [الْبَقَرَة: ١٤٢] ، وَأَنَّهُ

خِتَامٌ لِلْمُحَاجَّةِ فِي شَأْنِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، وَأَنَّ مَا بَيْنَ هَذَا وَذَلِكَ كُلُّهُ اعْتِرَاضٌ أُطْنِبَ فِيهِ وَأُطِيلَ لِأَخْذِ مَعَانِيهِ بَعْضِهَا بِحُجَزِ بَعْضٍ.

فَهَذَا إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَحَسَدِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ مُرَادٌ مِنْهُ تَلْقِينُ الْمُسْلِمِينَ الْحُجَّةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَهْوِيلِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِبْطَالَ الْقِبْلَةِ الَّتِي كَانُوا يُصَلُّونَ إِلَيْهَا فَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ. فَأَهْلُ الْكِتَابِ رَأَوْا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْبِرِّ بِاسْتِقْبَالِهِمْ قِبْلَتَهُمْ فَلَمَّا تَحَوَّلُوا عَنْهَا لَمَزُوهُمْ بِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الْبِرِّ، يَقُولُ عَدِّ عَنْ هَذَا وَأَعْرِضُوا عَنْ تَهْوِيلِ الْوَاهِنِينَ وَهَبُوا أَنَّ قِبْلَةَ الصَّلَاةِ تَغَيَّرَتْ أَوْ كَانَتِ الصَّلَاةُ بِلَا قِبْلَةٍ أَصْلًا فَهَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَهُ أَثَرٌ فِي تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَاتِّصَافِهَا بِالْبِرِّ، فَذِكْرُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اقْتِصَارٌ عَلَى أَشْهَرِ الْجِهَاتِ أَوْ هُوَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى قِبْلَةِ الْيَهُودِ وَقِبْلَةِ النَّصَارَى لِإِبْطَالِ تَهْوِيلِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ اسْتَقْبَلُوا الْكَعْبَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ الْخِطَابَ.

وَالْبِرُّ سِعَةُ الْإِحْسَانِ وَشِدَّةُ الْمَرْضَاةِ وَالْخَيْرُ الْكَامِلُ الشَّامِلُ وَلِذَلِكَ تُوصَفُ بِهِ الْأَفْعَالُ الْقَوِيَّةُ الْإِحْسَانِ فَيُقَالُ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَبِرُّ الْحَجَّ وَقَالَ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمرَان: ٩٢] ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا بِرُّ الْعَبْدِ رَبَّهُ بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ فِي تَلَقِّي شَرَائِعِهِ وَأَوَامِرِهِ.

وَنَفْيُ الْبِرِّ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْجِهَاتِ مَعَ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مَشْرُوعٌ كَاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ: إِمَّا لِأَنَّهُ مِنَ الْوَسَائِلِ لَا مِنَ الْمَقَاصِدِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِاشْتِغَالُ بِهِ قُصَارَى هِمَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَلِذَلِكَ أَسْقَطَهُ اللَّهُ عَنِ النَّاسِ فِي حَالِ الْعَجْزِ وَالنِّسْيَانِ وَصَلَوَاتِ النَّوَافِلِ عَلَى الدَّابَّةِ فِي السَّفَرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ إِلَخْ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَفِيهِ جِمَاعُ صَلَاحِ النَّفْسِ وَالْجَمَاعَةِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ [التَّوْبَة: ١٩] الْآيَاتِ فَيَكُونُ النَّفْيُ عَلَى مَعْنَى نَفْيِ الْكَمَالِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ عَنْهُ الْبِرَّ هُوَ اسْتِقْبَالُ قِبْلَتَيِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِقْبَالَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ أَنْبِيَاؤُهُمْ وَرُهْبَانُهُمْ وَلِذَلِكَ نُفِيَ الْبَرُّ عَنْ تَوْلِيَةِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَيْسَ الْبِرَّ بِرَفْعِ الْبِرَّ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ لَيْسَ وَالْخَبَرُ هُوَ أَنْ تُوَلُّوا وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ