للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حَقِيقِيٌّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ اسْتِغْفَار النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ يَمْحُو مَا أَضْمَرُوهُ مِنَ النَّكْثِ وَذَهَلُوا عَنْ عِلْمِ اللَّهِ بِمَا أَضْمَرُوهُ كَدَأْبِ أَهْلِ الْجَهَالَةِ فَقَدْ قتل الْيَهُود زَكَرِيَّاء مَخَافَةَ أَنْ تَصْدُرَ مِنْهُ دَعْوَةٌ عَلَيْهِمْ حِينَ قَتَلُوا ابْنَهُ يَحْيَى وَلِذَلِكَ عُقِّبَ قَوْلُهُمْ هُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً الْآيَةَ.

وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا زَعَمُوهُ مِنَ الِاعْتِذَارِ، وَإِنَّمَا كَانَ تَخَلُّفُهُمْ لِظَنِّهِمْ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصِدُ قِتَالَ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ مُقَاتِلُوهُ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّ الْجَيْشَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَغْلِبُوا أَهْلَ مَكَّةَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَذْهَبُ إِلَى قَوْمٍ غَزَوْهُ فِي عُقْرِ دَارِهِ (١) بِالْمَدِينَةِ يَعْنُونَ غَزْوَةَ الْأَحْزَابِ وَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ فَيُقَاتِلُهُمْ وَظَنُّوا أَنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ مِنْ ضَعْفِ يَقِينِهِمْ.

قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.

أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا فِيهِ رَدُّ أَمْرِهِمْ إِلَى اللَّهِ لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ اللَّهَ لَهُمْ لَا يُكْرِهُ اللَّهَ عَلَى الْمَغْفِرَةِ بَلِ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ إِذَا أَرَادَهُ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِهِمْ نَفْعًا نَفَعَهُمْ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِهِمْ ضُرًّا ضَرَّهُمْ فَمَا كَانَ مِنَ النُّصْحِ لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يَتَوَرَّطُوا فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَهُ. فَلَعَلَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ، فَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا تَخْوِيفُهُمْ مِنْ عِقَابِ ذَنْبِهِمْ إِذْ تَخَلَّفُوا عَنْ نفير النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَبُوا فِي الِاعْتِذَارِ لِيُكْثِرُوا مِنَ التَّوْبَةِ وَتَدَارُكِ الْمُمْكِنِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ [الْفَتْح: ١٦] الْآيَةَ.

فَمَعْنَى إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً هُنَا الْإِرَادَةُ الَّتِي جَرَتْ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ تَعَالَى مِنْ إِعْطَائِهِ النَّفْعَ إِيَّاهُمْ أَوْ إِصَابَتِهِ بِضُرٍّ وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَوْجِيهٌ بِأَنَّ


(١) الْعقر بِضَم الْعين وَفتحهَا: الأَصْل وَالْمَكَان. [.....]