للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ بِدُونِ عَطْفٍ لِأَنَّهَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لِرَدِّ كَلَامِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِنَظْمِ الْكَلَامِ. وَقِيلَ هِيَ جَوَابُ الْقَسَمِ كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ جَمْعَ أَجْزَاءِ الْأَجْسَامِ مُمْكِنٌ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِتِلْكَ الْأَجْزَاءِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى عُمُومِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَكَانَ قَدْ أَرَادَ إِحْيَاءَ أَصْحَابِهَا كَمَا أَخْبَرَ بِهِ، فَلَا يَعْظُمُ عَلَى قُدْرَتِهِ جَمْعُهَا وَتَرْكِيبُهَا أَجْسَامًا كَأَجْسَامِ أَصْحَابِهَا حِينَ فَارَقُوا الْحَيَاةَ فَقَوْلُهُ: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ إِيمَاءٌ إِلَى دَلِيلِ الْإِمْكَانِ لِأَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَى عُمُومِ الْعِلْمِ كَمَا قُلْنَا. فَأَسَاسُ مَبْنَى الرَّدِّ هُوَ عُمُومُ عِلْمِ الله تَعَالَى لِأَن يَجْمَعُ إِبْطَالَ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْ شُبْهَتِهِمْ فَلَوْ قَالَ، نَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى إِرْجَاعِ مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ لَخَطَرَ فِي وَسَاوِسِ نُفُوسِهِمْ شُبْهَةُ أَنَّ اللَّهَ وَإِنْ سَلَّمَنَا أَنَّهُ قَادِرٌ فَإِنَّ أَجْزَاءَ الْأَجْسَادِ إِذَا تَفَرَّقَتْ لَا يَعْلَمُهَا اللَّهُ حَتَّى تَتَسَلَّطَ عَلَى جَمْعِهَا قُدْرَتُهُ فَكَانَ الْبِنَاءُ عَلَى عُمُومِ الْعِلْمِ أَقْطَعَ لِاحْتِمَالَاتِهِمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ بَيَانٌ لِلْإِمْكَانِ رَعْيًا لِمَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُمْ مِنَ الْإِحَالَةِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْإِمْكَانِ يَقْلَعُ اعْتِقَادَ الِاسْتِحَالَةِ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَهُوَ كَافٍ لِإِبْطَالِ تَكْذِيبِهِمْ وَلِاسْتِدْعَائِهِمْ لِلنَّظَرِ فِي الدَّعْوَةِ، ثُمَّ يَبْقَى النَّظَرُ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِعَادَةِ، وَهِيَ أَمْرٌ لَمْ نُكَلَّفْ بِالْبَحْثِ عَنْهُ وَقَدِ اخْتلف فِيهَا أيمة أَهْلِ السُّنَّةِ فَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ تُعَادُ الْأَجْسَامُ بَعْدَ عَدَمِهَا. وَمَعْنَى إِعَادَتِهَا. إِعَادَةُ أَمْثَالِهَا بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ أَجْسَادًا مِثْلَ الْأُولَى تُودَعُ فِيهَا الْأَرْوَاحُ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا حَالَّةً فِي الْأَجْسَادِ الْمَعْدُومَةِ الْآنَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْجِسْمُ لِصَاحِبِ الرُّوحِ فِي الدُّنْيَا وَبِذَلِكَ يَحِقُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا هُوَ فُلَانٌ الَّذِي عَرَفْنَاهُ فِي الدُّنْيَا إِذِ الْإِنْسَانُ كَانَ إِنْسَانًا بِالْعَقْلِ وَالنُّطْقِ، وَهُمَا مَظْهَرُ الرُّوحِ. وَأَمَّا الْجَسَدُ فَإِنَّهُ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرَاتٍ كَثِيرَةٍ ابْتِدَاءً مِنْ وَقْتِ كَوْنِهِ جَنِينًا، ثُمَّ مِنْ وَقْتِ الطُّفُولَةِ ثُمَّ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْأَطْوَارِ فَتَخْلُفُ أَجْزَاؤُهُ المتجددة أجزاءه الْمُقْتَضِيَة، وَبُرْهَانُ ذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ الطَّبِيعِيَّاتِ، لَكِنَّ ذَلِكَ التَّغَيُّرَ لَمْ يَمْنَعْ مِنِ اعْتِبَارِ الذَّاتِ ذَاتًا وَاحِدَةً لِأَنَّ هُوِيَّةَ الذَّاتِ حَاصِلَةٌ مِنَ الْحَقِيقَةِ