للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَعِيدٌ لِلْمُبَدِّلِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَإِنْ تَحَيَّلَ النَّاسُ لِإِبْطَالِ الْحُقُوقِ بِوُجُوهِ الْحِيَلِ وَجَارُوا بِأَنْوَاعِ الْجَوْرِ فَاللَّهُ سَمِيعٌ وَصِيَّةَ الْمُوصِي وَيَعْلَمُ فِعْلَ الْمُبَدِّلِ، وَإِذَا كَانَ سَمِيعًا عَلِيمًا وَهُوَ قَادِرٌ فَلَا حَائِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُجَازَاةِ الْمُبَدِّلِ. وَالتَّأْكِيدُ بِأَنْ نَاظَرَ إِلَى حَالَةِ الْمُبَدِّلِ الْحُكْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ بَدَّلَهُ لِأَنَّهُ فِي إِقْدَامِهِ عَلَى التَّبْدِيلِ يَكُونُ كَمَنْ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ فَلِذَلِكَ أَكَّدَ لَهُ الْحُكْمَ تَنْزِيلًا لَهُ منزلَة الْمُنكر.

[١٨٢]

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٨٢]

فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)

تَفْرِيعٌ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي تَقَدَّمَهُ وَهُوَ تَحْرِيمُ التَّبْدِيلِ، فَكَمَا تَفَرَّعَ عَنِ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ فِي الْوَصِيَّةِ وَعِيدُ الْمُبَدِّلِ لَهَا، وَتَفَرَّعَ عَنْ وَعِيدِ الْمُبَدِّلِ الْإِذْنُ فِي تَبْدِيلٍ هُوَ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ تَبْدِيلُ الْوَصِيَّةِ الَّتِي فِيهَا جَوْرٌ وَحَيْفٌ بِطَرِيقَةِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ نَالَهُ الْحَيْفُ مِنْ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ بِأَنْ كَانَ جَدِيرًا بِالْإِيصَاءِ إِلَيْهِ فَتَرَكَهُ الْمُوصِي أَوْ كَانَ جَدِيرًا بِمِقْدَارٍ فَأَجْحَفَ بِهِ الْمُوصِي لِأَنَّ آيَة الْوَصِيَّة حضرت قِسْمَةَ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ فِي اتِّبَاعِ وَصِيَّتِهِ وَجَعَلَتْ ذَلِكَ مَوْكُولًا إِلَى أَمَانَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا حَافَ حَيْفًا وَاضِحًا وَجَنَفَ عَنِ الْمَعْرُوفِ أُمِرَ وُلَاةُ الْأُمُورِ بِالصُّلْحِ.

وَمَعْنَى خَافَ هُنَا الظَّنُّ وَالتَّوَقُّعُ لِأَنَّ ظَنَّ الْمَكْرُوهِ خَوْفٌ فَأَطْلَقَ الْخَوْفَ عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ الظَّنُّ وَالتَّوَقُّعُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَا تَوَقَّعَهُ الْمُتَوَقِّعُ مِنْ قَبِيلِ الْمَكْرُوهِ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ أَنَّ

الْجَنَفَ وَالْإِثْمَ لَا يُخِيفَانِ أَحَدًا وَلَا سِيَّمَا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ الْمُصْلِحُ بَيْنَ أَهْلِهَا، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْخَوْفِ فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُ أَبِي مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ:

أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا

أَيْ أَظُنُّ وَأَعْلَمُ شَيْئًا مَكْرُوهًا وَلِذَا قَالَ قَبْلَهُ:

تَرْوِي عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُهَا

وَالْجَنَفُ الْحَيْفُ وَالْمَيْلُ وَالْجَوْرُ وَفِعْلُهُ كَفَرِحَ. وَالْإِثْمُ الْمَعْصِيَةُ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْجَنَفِ هُنَا تَفْضِيلُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ التَّفْضِيلَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقَرَابَةِ الْمُسَاوِي لَهُ أَوِ الْأَحَقِّ، فَيَشْمَلُ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَكِنَّهُ فِي الْوَاقِعِ حَيْفٌ فِي الْحَقِّ، وَالْمُرَادُ بِالْإِثْمِ مَا كَانَ قَصْدُ الْمُوصِي بِهِ حِرْمَانَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَوْ تَفْضِيلَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ.