للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ الْجِنَّ هُنَا إِلَّا لِتَنْبِيهِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْجِنَّ غَيْرُ خَارِجِينَ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنِ الْجِنِّ فِي سُورَة الْجِنّ قَول قَائِلُهُمْ: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً [الْجِنّ: ٤] .

وَتَقْدِيمُ الْجِنِّ فِي الذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ الْغَرِيبِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ الْجِنّ عباد لله تَعَالَى، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٦] .

وَجُمْلَةُ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ تَقْرِيرٌ لِمَعْنَى إِلَّا لِيَعْبُدُونِ بِإِبْطَالِ بَعْضِ الْعِلَلِ وَالْغَايَاتِ الَّتِي يَقْصِدُهَا الصَّانِعُونَ شَيْئًا يَصْنَعُونَهُ أَو يتخذونه، فَإِن الْمَعْرُوفُ فِي الْعُرْفِ أَنَّ مَنْ يَتَّخِذُ شَيْئًا إِنَّمَا يَتَّخِذهُ لنفع نَفسه، وَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ لِإِفَادَةِ

الْجَانِبِ الْمَقْصُورِ دُونَهُ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ لِأَنَّ صِيغَةَ الْقَصْرِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ الضِّدِّ. وَلَا يَحْسُنُ ذِكْرُ الضِّدِّ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ.

فَقَوْلُهُ: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ أَشَدَّ الْحَاجَاتِ فِي الْعُرْفِ حَاجَةُ النَّاسِ إِلَى الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالسَّكَنِ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِالرِّزْقِ وَهُوَ الْمَالُ، فَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِهِ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ الْإِطْعَامُ، أَيْ إِعْطَاءُ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْبَشَرُ، وَقَدْ لَا يَجِدُهُ صَاحِبُ الْمَالِ إِذَا قَحَطَ النَّاسُ فَيَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُسْلِفُهُ الطَّعَامَ أَوْ يُطْعِمُهُ إِيَّاهُ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الشِّرْكِ إِذْ يُهْدُونَ إِلَى الْأَصْنَامِ الْأَمْوَالَ وَالطَّعَام تتلقاه مِنْهُم سَدَنَةُ الْأَصْنَامِ.

وَالرِّزْقُ هُنَا: الْمَالُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت: ١٧] وَقَوْلِهِ:

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرَّعْد: ٢٦] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطَّلَاق: ٧] ، وَيُطْلَقُ الرِّزْقُ عَلَى الطَّعَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مَرْيَم: ٦٢] وَيَمْنَعُ مِنْ إِرَادَتِهِ هُنَا عَطْفُ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ.