للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْأَرْوَاحُ مِنَ الْأَجْسَادِ إِذْ لَا فَائِدَةَ تَحْصُلُ مِنْ تَفْرِيقِ ذَيْنَكِ الْإِلْفَيْنِ لَوْلَا غَرَضٌ سَامٍ، وَهُوَ وَضْعُ كُلِّ رُوحٍ فِيمَا يَلِيقُ بِهَا مِنْ عَالَمِ الْخُلُودِ جَزَاءً عَلَى الْأَعْمَالِ، وَلِذَلِكَ أُوثِرَ لَفْظُ غَيْرَ مَدِينِينَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: غَيْرُ مَبْعُوثِينَ، أَوْ غَيْرُ مُعَادِينَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْإِدَانَةِ نَفْيُ الْبَعْثِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْثٌ بِلَا جَزَاءٍ لَكِنْ ذَلِكَ لَا يُدْعَى لِأَنَّهُ عَبَثٌ.

فَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ سَوْقِ هَذَا الدَّلِيلِ إِبْطَالُ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ الَّذِي هُوَ لِحِكْمَةِ الْجَزَاءِ.

وَمِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يُفِيدَ الْإِيمَاءُ إِلَى حِكْمَةِ الْمَوْتِ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ لِتَخْلِيصِ الْأَرْوَاحِ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ الزَّائِلَةِ الْمَمْلُوءَةِ بَاطِلًا إِلَى الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الْحَقِّ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا أَحْوَالُ الْأَرْوَاحِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ سُلُوكَهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّكُمْ مَدِينُونَ لَمَا انْتَزَعْنَا الْأَرْوَاحَ مِنْ أَجْسَادِهَا بَعْدَ أَنْ جَعَلْنَاهَا فِيهَا وَلَأَبْقَيْنَاهَا لِأَنَّ الرُّوحَ الْإِنْسَانِيَّ لَيْسَ كَالرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى دَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِحَاقِّ التَّرْكِيبِ، وَالْآخَرُ بِمُسْتَتْبَعَاتِهِ الَّتِي أَوْمَأَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. وَالْغَرَضُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي ذُيِّلَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.

هَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ الَّذِي يُحِيطُ بِأَوْفَرِ مَعَانِيهَا دَلَالَةً وَاقْتِضَاءً وَمُسْتَتْبَعَاتٍ. وَجُعِلَ فِي «الْكَشَّاف» معنى الْآيَةِ يَصُبُّ إِلَى إِبْطَالِ مَا يَعْتَقِدُهُ الدَّهْرِيُّونَ، أَيِ الَّذِينَ يَقُولُونَ نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: ٢٤] ، لِأَنَّهُمْ نَفَوْا أَنْ يَكُونُوا عِبَادًا لِلَّهِ. وَجُعِلَ مَعْنَى مَدِينِينَ مَمْلُوكِينَ لِلَّهِ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ الْفَرَّاءُ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «إِنَّهُ أَصَحَّ مَا يُقَالُ فِي مَعْنَى اللَّفْظَةِ هُنَا، وَمَنْ عَبَّرَ بِمُجَازَى أَوْ بِمُحَاسَبٍ، فَذَلِكَ هُنَا قَلِقٌ» . وَقُلْتَ: فِي كَلَامِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ.

وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَفْرِيعَهُ عَلَى مَا حُكِيَ مِنْ كَلَامِهِمُ السَّابِقِ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ مَا حُكِيَ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي الْأَنْوَاءِ وَالتَّكْذِيبِ يُفْضِي إِلَى مَذْهَبِ التَّعْطِيلِ، فَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِمْ بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي وُجُودَ الْخَالِقِ وَهُوَ كُلُّهُ ناء عَن معنى الْآيَةِ لِأَنَّ الدَّهْرِيَّةَ لَا يَنْتَحِلُهَا جَمِيعُ الْعَرَبِ بَلْ هِيَ نِحْلَةُ طَوَائِفَ قَلِيلَةٍ مِنْهُمْ وَنَاءٍ عَنْ مُتَعَارَفِ أَلْفَاظِهَا وَعَنْ تَرْتِيب استدلالها.