للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَلِذَلِكَ أَقْحَمَ لَفْظَ الْقَوْمِ فِي قَوْلِهِ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ ضَعْفِ عُقُولِهِمْ حَتَّى صَارَتْ عُقُولُهُمْ كَالْمَعْدُومَةِ فَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ الْمَعْقِلَ الصَّحِيحَ.

وَأُوثِرَ هُنَا لَا يَعْقِلُونَ. وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لَا يَفْقَهُونَ [الْحَشْر: ١٣] لِأَنَّ مَعْرِفَةَ مَآلِ التَّشَتُّتِ فِي الرَّأْيِ وَصَرْفِ الْبَأْسِ إِلَى الْمُشَارِكِ فِي الْمَصْلَحَةِ مِنَ الْوَهْنِ وَالْفَتِّ فِي سَاعِدِ الْأُمَّةِ مَعْرِفَةٌ «مَشْهُورَةٌ» بَيْنَ الْعُقَلَاءِ. قَالَ أَحَدُ بَنِي نَبْهَانَ يُخَاطِبُ قَوْمَهُ إِذْ أَزْمَعُوا عَلَى حَرْبِ بَعْضِهِمْ:

وَأَنَّ الْحَزَامَةَ أَنْ تَصْرِفُوا ... لِحَيٍ سِوَانَا صُدُورَ الْأَسَلْ

فَإِهْمَالُهُمْ سُلُوكَ ذَلِكَ جَعَلَهُمْ سَوَاءً مَعَ مَنْ لَا عُقُولَ لَهُمْ فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ شِقْوَةً لَهُمْ حَصُلَتْ مِنْهَا سَعَادَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ أَنَّ إِسْنَادَ الْحُكْمِ إِلَى عُنْوَانِ قَوْمٍ يُؤْذِنُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ كَالْجِبِلَّةِ

الْمُقَوِّمَةِ لِلْقَوْمِيَّةِ وَقَدْ ذكرته آنِفا.

[١٥]

[سُورَة الْحَشْر (٥٩) : آيَة ١٥]

كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥)

خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْخَبَرُ، فَالتَّقْدِيرُ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا، أَيْ حَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَوْعُودِ بِنَصْرِ الْمُنَافِقِينَ كَحَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا.

وَالْمُرَادُ: أَنَّ حَالَهُمُ الْمُرَكَّبَةَ مِنَ التَّظَاهُرِ بِالْبَأْسِ مَعَ إِضْمَارِ الْخَوْفِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنَ التَّفَرُّقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنْ خِذْلَانِ الْمُنَافِقِينَ إِيَّاهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَمِنْ أَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ، كَحَالِ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ فِي زَمَنٍ قَرِيبٍ وَهُمْ بَنُو النَّضِيرِ فَإِنَّهُمْ أَظْهَرُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْحَرْبِ وَأَبَوُا الْجَلَاءَ، فَلَمْ يُحَارِبُوا إِلَّا فِي قَرْيَتِهِمْ إِذْ حَصَّنُوهَا وَقَبَعُوا فِيهَا حَتَّى أَعْيَاهُمُ الْحِصَارُ فَاضْطُرُّوا إِلَى الْجَلَاءِ وَلَمْ يَنْفَعْهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَلَا إِخْوَانُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.