للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(١)

لَمَّا كَانَ جُلُّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ إِبْطَالَ إِشْرَاكِ الْمُشْرِكِينَ وَزَجْرَهُمْ عَنْ دِينِ الْإِشْرَاكِ بِأَسْرِهِ وَعَنْ تَفَارِيعِهِ الَّتِي أَعْظَمُهَا إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ وتكذيبهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْذِيبُ الْقُرْآنِ وَتِلْكَ أُصُولُ ضَلَالِهِمْ ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِالْإِعْلَانِ بِضَلَالِهِمْ وَكُفْرَانِهِمُ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ تَعَالَى عَنِ النَّقَائِصِ: إِمَّا بِلِسَانِ الْمَقَالِ مِثْلَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ مِثْلَ عِبَادَةِ الْمُطِيعِينَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُدْرِكَةِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِمَّا بِلِسَانِ الْحَالِ مِثْلَ دَلَالَةِ حَالِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ كَحَاجَةِ

الْحَيَوَانِ إِلَى الرِّزْقِ وَحَاجَةِ الشَّجَرَةِ إِلَى الْمَطَرِ وَمَا يَشْهَدُ بِهِ حَالُ جَمِيعِ تِلْكَ الْكَائِنَاتِ مِنْ أَنَّهَا مَرْبُوبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُسَخَّرَةٌ لِمَا أَرَادَهُ مِنْهَا. وَكُلُّ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ تَنْقُضْ دَلَالَةَ حَالِهَا بِنَقَائِضِ كُفْرِ مَقَالِهَا فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذَا التَّسْبِيحِ إِلَّا أَهْلُ الضَّلَالِ مِنَ الْإِنْسِ وَالشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ حُجِبُوا بِشَهَادَةِ حَالِهِمْ لَمَّا غَشَوْهَا بِهِ مِنْ صَرْحِ الْكُفْرِ.

فَالْمَعْنَى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَنْتُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ.

وَهَذَا يُفِيدُ ابْتِدَاءَ تَقْرِيرِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّةِ سُلْطَانِهِ لِيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَيَكُونُ لَهُمْ تَعْلِيمًا وَامْتِنَانًا وَيُفِيدُ ثَانِيًا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يُنَزِّهُوهُ وَلَا وَقَّرُوهُ فَنَسَبُوا إِلَيْهِ شُرَكَاءَ.

وَجِيءَ بِفِعْلِ التَّسْبِيحِ مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ التَّسْبِيحِ وَدَوَامِهِ وَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ.

وَجِيءَ بِهِ فِي فَوَاتِحِ سُوَرِ: الْحَدِيدِ، وَالْحَشْرِ، وَالصَّفِّ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي قَدِيمِ الْأَزْمَانِ. فَحَصَلَ مِنْ هَذَا التَّفَنُّنِ فِي فواتح هَذِه السُّورَة كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ زِيَادَةً عَلَى مَا بَيَّنَاهُ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ الْخَاصَّةِ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ، وَمَا فِي هَاتِهِ السُّورَةِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ تَجَدُّدِ التَّسْبِيحِ وَالْأَمْرِ بِالْعَفْوِ عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِكَيْ لَا يَكْتَفِيَ الْمُؤْمِنُونَ بِحُصُولِ إِيمَانِهِمْ لِيَجْتَهِدُوا فِي تَعْزِيزِهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

وَإِعَادَةُ مَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: وَما فِي الْأَرْضِ لِقَصْدِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ.

وَجُمْلَةُ لَهُ الْمُلْكُ اسْتِئْنَافٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ والتسبب لمضمون يسبح لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ مُلَابَسَةَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ لِدَلَائِلِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى