للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَتَعْرِيضًا بِقَوْلِهِ: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التَّحْرِيم: ٨] ، أَمر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَسْمَعٍ مِنْهُمْ بِأَنْ يُجَاهِدَهُمْ وَيُجَاهِدَ الْمُسْتَتِرِينَ لِكُفْرِهِمْ بِظَاهِرِ الْإِيمَانِ نِفَاقًا، حَتَّى إِذَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِمُ الْمَوْعِظَةُ بِعِقَابِ الْآخِرَةِ يَخْشَوْنَ أَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَذَابَ السَّيْفِ فِي الْعَاجِلَةِ فَيُقْلِعُوا عَنِ الْكُفْرِ فَيُصْلِحُ نُفُوسَهُمْ وَإِنَّمَا أَمر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ تَأَلَّبُوا مَعَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ هِجْرَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّخَذُوهُمْ عُيُونًا لَهُمْ وَأَيَدِيَ يَدُسُّونَ بِهَا الْأَذَى للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.

فَهَذَا نِدَاءٌ ثَان للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُ بِإِقَامَةِ صَلَاحِ عُمُومِ الْأُمَّةِ بِتَطْهِيرِهَا مِنَ الْخُبَثَاءِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِإِفَاقَةِ مَنْ عَلَيْهِمَا الْغَفْلَةُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ وَاجِبِ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الزَّوْجِ.

وَجِهَاد الْكفَّار ظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَطْفُ الْمُنافِقِينَ عَلَى الْكُفَّارَ الْمَفْعُولِ لِ جاهِدِ فَيَقْتَضِي أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِجِهَادِ الْمُنَافِقِينَ وَكَانَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ مُلْتَبِسًا إِذْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مُعْلِنًا بِالْكُفْرِ وَلَا شُهِدَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ بِذَلِكَ وَلَمْ يُعَيِّنِ الله لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَافِقًا يُوقِنُ بِنِفَاقِهِ وَكُفْرِهِ أَوْ أَطْلَعَهُ إِطْلَاعًا خَاصًّا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعْلَانِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ فِي الْآثَارِ.

فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلَ عَطْفِ الْمُنافِقِينَ عَلَى الْكُفَّارَ إِمَّا بِأَنْ يَكُونَ فِعْلُ جاهِدِ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَهُمَا الْجِهَادُ بِالسَّيْفِ وَالْجِهَادُ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَالتَّعْرِيضُ لِلْمُنَافِقِ بِنِفَاقِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ مَجَازًا كَمَا

فِي قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رَجِعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى

الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ»

،

وَقَوْلِهِ لِلَّذِي سَأَلَهُ الْجِهَادَ فَقَالَ لَهُ: «أَلَكَ أَبَوَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»

. وَعِنْدِي أَنَّ الْأَقْرَبَ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْعَطْفِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِلْقَاءَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ لِيَشْعُرُوا بِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤمنِينَ بالمرصاد بهم فَلَوْ بَدَتْ مِنْ أَحَدِهِمْ بَادِرَةٌ يُعْلَمُ مِنْهَا نِفَاقُهُ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْكَافِرِ فِي الْجِهَادِ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ فَيَحْذَرُوا وَيَكُفُّوا عَنِ الْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ خَشْيَةَ الِافْتِضَاحِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الْأَحْزَاب: ٦٠، ٦١] .