للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دعا جماعة من الرؤساء والأعلام، قعد يوما بباب عبد الله بْن طاهر، وقد ركب الى عبيد الله بن السري بعد صلحه وأمانه، فلما انصرف قام إليه الرجل، فأخرج من كمه رقعة فدفعها إليه، فأخذها بيده، فما هو إلا أن دخل فخرج الحاجب إليه، فأدخله عليه وهو قاعد على بساطه، ما بينه وبين الأرض غيره، وقد مد رجليه، وخفاه فيهما، فقال له: قد فهمت ما في رقعتك من جملة كلامك، فهات ما عندك، قَالَ: ولي أمانك وذمة الله معك؟ قَالَ: لك ذلك، قَالَ: فأظهر له ما أراد، ودعاه إلى القاسم، وأخبره بفضائله وعلمه وزهده، فقال له عبد الله: أتنصفني؟ قَالَ: نعم، قَالَ: هل يجب شكر الله على العباد؟

قَالَ: نعم، قَالَ: فهل يجب شكر بعضهم لبعض عند الإحسان والمنة والتفضل؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فتجيء إلي وأنا في هذه الحالة التي ترى، لي خاتم في المشرق جائز وفي المغرب كذلك، وفيما بينهما أمري مطاع، وقولي مقبول، ثم ما التفت يميني ولا شمالي وورائي وقد أمي إلا رأيت نعمة لرجل أنعمها علي، ومنة ختم بها رقبتي، ويدا لائحة بيضاء ابتدأني بها تفضلا وكرما، فتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وهذا الإحسان، وتقول: اغدر بمن كان أولا لهذا وآخرا، واسع في إزالة خيط عنقه وسفك دمه! تراك لو دعوتني إلى الجنة عيانا من حيث أعلم، أكان الله يحب أن أغدر به، وأكفر إحسانه ومنته، وأنكث بيعته! فسكت الرجل، فقال له عبد الله: أما إنه قد بلغني أمرك، وتالله ما أخاف عليك إلا نفسك، فارحل عن هذا البلد، فإن السلطان الأعظم إن بلغه أمرك- وما آمن ذلك عليك- كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك.

فلما أيس الرجل مما عنده جاء إلى المأمون، فأخبره الخبر، فاستبشر وقال:

ذلك غرس يدي، وإلف أدبي، وترب تلقيحي، ولم يظهر من ذلك لأحد شيئا، ولا علم به عبد الله إلا بعد موت المأمون.

وذكر عن عبد الله بْن طاهر أنه قَالَ وهو محاصر بمصر عبيد الله بن السرى:

<<  <  ج: ص:  >  >>