للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والبيت القديم في الرئاسة. ثم ولي عند الضرورة كتابة السكة بالديوان العزيز ببغداد، يرزق برزق مقداره عشرة دنانير في الشهر، وسألته فقلت: من هو حمدون الذي تنسبون إليه؟ أهو حمدون نديم المتوكل ومن بعده من الخلفاء؟ فقال: لا نحن من آل سيف الدولة بن حمدان بن حمدون من بني تغلب، هذا صورة لفظه.

وكان من المحبين للكتب واقتنائها، والمبالغين في تحصيلها وشرائها، وحصل له من أصولها المتقنة وأمهاتها المعينة ما لم يحصل لكثير أحد، ثم تقاعد به الزمان [١] وبطل عن العمل، فرأيته يخرجها ويبيعها وعيناه تذرفان الدموع عليها كالمفارق لأهله الاعزّاء، والمفجوع بأحبابه الأودّاء، فقلت له: هوّن عليك- أدام الله أيامك- فإن الدهر ذو دول، وقد يصحب الزمان ويساعد، وترجع دولة العز وتعاود، فتستخلف ما هو أحسن منها وأجود؛ فقال: حسبك يا بني هذه نتيجة خمسين سنة من العمر أنفقتها في تحصيلها، وهب أن المال يتيسر والعمر [٢] يتأخر، وهيهات، فحينئذ لا أحصل من جمعها بعد ذلك إلا على الفراق الذي ليس بعده تلاق، وأنشد بلسان الحال:

هب الدهر أرضاني وأعتب صرفه ... وأعقب بالحسنى وفكّ من الأسر

فمن لي بأيام الشباب التي مضت ... ومن لي بما قد مرّ في البؤس من عمري

ثم أدركته منيته ولم ينل أمنيته.

وكان حريصا على العلم، فجمع من أخبار العلماء، وصنّف من أخبار الشعراء، وألف كتبا كان لا يجسر على إظهارها خوفا مما طرق أباه مع شدة احتراز.

وبالجملة فعاش في زمن سوء وخليفة غشوم جائر، كان إذا تنفس خاف أن يكون على نفسه رقيب يؤدي به إلى العطب، وهو كان آخر من بقي من هذا البيت القديم والركن الدعيم، ولم يخلّف إلا ابنة مزوجة من ابن الدوامي، وما أظنها معقبة أيضا. وكان مع اغتباطه بالكتب ومنافسته ومناقشته فيها جوادا باعارتها، ولقد قال لي يوما، وقد عجبت من مسارعته إلى إعارتها للطلبة: ما بخلت باعارة كتاب قط ولا أخذت عليه رهنا. ولا


[١] م: الدهر.
[٢] م: والأجل.

<<  <  ج: ص:  >  >>