للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بلغ في البخل والتكدية وكثرة المال المبلغ الذي لم يبلغه أحد، وكان متكلما بليغا قاصّا داهيا، وكان أبو سليمان الأعور وأبو سعيد المدائني القاصان من غلمانه، وله أخبار حسان.

ومن لطائفه وصيته لابنه عند موته وفيها لطائف وغرائب قال فيها: إني قد تركت لك ما تأكله إن حفظته، وما لا تأكله إن ضيعته. ولما أورثتك من العرف الصالح، وأشهدتك من صواب التدبير، وعوّدتك من عيش المقتصدين، خير لك من هذا المال. وقد دفعت إليك آلة لحفظ المال عليك بكلّ حيلة، ثم إن لم يكن لك معين من نفسك لما انتفعت بشيء من ذلك، بل يعود ذلك النهي كله إغراء [١] لك، وذلك المنع تهجينا لطاعتك: قد بلغت في البرّ منقطع العمران [٢] ، وفي البحر أقصى مبلغ السفن، فلا عليك إذ رأيتني ألا ترى ذا القرنين، ودع عنك مذاهب ابن شرية فانه لا يعرف إلّا ظاهر الخبر، ولو رآني تميم الداريّ لأخذ عني صفة الروم، ولأنا أهدى من القطا ومن دعيميص ومن رافع المخشّ [٣] ، إنّي قد بتّ في القفر مع الغول، وتزوجت السّعلاة، وجاوبت الهاتف، ورغت عن الجن إلى الحنّ، واصطدت الشقّ، وحاورت النسناس، وصحبني الرّئي، وعرفت خدع الكاهن وتدسيس العرّاف، وإلى ما يذهب الخطّاط والعياف، وما يقول أصحاب الأكتاف، وعرفت التنجيم والزّجر والطّرق والفكر. إن هذا المال لم أجمعه من القصص والتكدية، ومن احتيال النهار ومكابدة الليل، ولا يجمع مثله أبدا إلا من معاناة ركوب البحر، ومن عمل السلطان، أو من كيمياء الذهب والفضة، قد عرفت الأسّ [٤] حقّ معرفته، وفهمت كسر الاكسير على حقيقته، ولولا علمي بضيق صدرك، ولولا أن أكون سببا لتلف نفسك لعلّمتك الساعة الشيء الذي بلغ بقارون، وبه تبنّكت خاتون، والله ما يتسع صدرك عندي لسرّ


[١] م: اعتزالا.
[٢] البخلاء: التراب.
[٣] يعني عبيد بن شرية الجرهمي، ولا نعرف ما هي مذاهبه، ولعله يعني أحاديثه الأسطورية، ونميم الداري كان يعرف الروم لأنه كان يسكن في فلسطين؛ ودعيميص الرمل مضرب المثل في الهداية، وكذلك رافع الطائي الذي كان دليل خالد في اجتياز المفازة.
[٤] البخلاء: الرأس.

<<  <  ج: ص:  >  >>