للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما علمه فكان غاية في الذكاء والفهم، آية في علم العربية خاصة، وفي سائر العلوم عامة. ورأيت قوما من نحاة بغداد يفضلونه على أبي عليّ الفارسي- زعموا أنه كان يعرف جميع ما عرفه أبو علي الفارسي، وزاد عليه في علم الأدب وغيره، لتفننه في جميع العلوم. وقد سمع حديث النبي، صلّى الله عليه وسلّم وأكثر، وتفقّهه وعرف صحيحه من سقيمه، وبحث عن أحكامه، وتبحّر في علومه. ورأيت بخطه كثيرا من كتب الحكمة. وكان حسن السيرة، سالكا طريق الأوائل في هديه وسمته، لا يتكلّف في شيء من أمر ملبوسه وهيئته. وإذا سمعت كلامه ظننته عاميا لا يفقه شيئا. فمما يحكى عنه أنه كان له تلميذ يعرف بابن الزاهد، أرسله يوما إلى السوق ليشتري له نور كوش (؟) فقال له ابن الزاهد: تعرفه يا سيدي؟ فقال له: إلا بعرفه؟ أراد لفظة العامة، وترك التفاصح. وكان مع ما شاع من فضله مشتهرا بلعب الشطرنج، وكان رؤساء زمانه ووزراء وقته يودّون مجالسته، ويتمنّون محاضرته، فيتركهم ويمضي إلى حريف له زنجي قبيح الصورة سمج الألفاظ، يعرف بشبيل، فيجلس معه على قارعة الطريق في بعض الدكاكين، ويلاعبه ويسافهه، ويهزأ به، أو يمضي إلى الرحبة، أو إلى شاطىء دجلة فيقف على حلق أرباب الحكايات والشعبذة وما ناسبهم فكان إذا لاموه على ذلك يقول: إنه يندر منهم نوادر لا يكون أحسن منها ولا ألطف، في صحة قرائحهم وتصديهم لما هم بصدده، وتراح النفس لذلك. وكان مع ذلك لا يخلو كمه قطّ من الكتب وأنواع العلوم، وكان بينما هو يمشي في الطريق يخطر له قراءة شيء، فيجلس كيف اتفق، ويخرج الدفاتر، فيطلع فيها، وكان معدودا في القذري الملبس والزي. وسمعت عنه ممن لا أحصي أنه كان يعتمّ العمّة فتبقى أشهرا معتمة حتى تتسخ أطرافها من عرقه فتسودّ. وكان إذا رفعها عن رأسه ثم أراد لبسها تركها على رأسه كيف اتفق، فتارة تجيء عذبتها من تلقاء وجهه، وتارة عن يمينه، وتارة عن شماله فلا يغيرها، فإذا قيل له في ذلك، فيقول: ما استوت العمة على رأس عاقل. هذه كانت حجته. وكان يعجب بمناداة عامة بغداد على معايشهم، وتفننّهم فيها، وإتيانهم بالمعاني الغريبة. وكان يقول: كم خلف هذه الطرازدانات من الخواطر المظلومة لو اشتغلت بالعلوم برّزت على العلماء. وكان الوزير عون الدين بن هبيرة وزعيم الدين ابن جعفر، صاحب المخزن يعاتبانه على تبذله، ويلومانه على ما قدمنا ذكره، فلا

<<  <  ج: ص:  >  >>