للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويجاوز المضارب، ثم ينصرف إلى الباب. فلم يزل كذلك يتعلم المسألة بعد المسألة حتى قوي وتمكن، وكان فطنا حريصا، فلما أصاب الكسائيّ الوضح في وجهه وبدنه كره الرشيد ملازمته أولاده، فأمر أن يرتاد لهم من ينوب عنه ممن يرتضي به وقال: إنك قد كبرت ونحن نحبّ أن نودّعك، ولسنا نقطع عنك جاريك، فجعل يدافع بذلك ويتوقّى أن يأتيهم برجل فيغلب على موضعه، إلى أن ضيّق عليه الأمر وشدّد، وقيل له إن لم تأتنا أنت من أصحابك برجل ارتدنا نحن لهم من يصلح، وكان قد بلغه أن سيبويه يريد الشخوص إلى بغداد والأخفش، فقلق لذلك، ثم عزم على أن يدخل إلى أولاد الرشيد من لا يخشى ناحيته، ومن ليس ممن اشتد من أصحابه، فقال للأحمر:

هل فيك خير؟ قال: نعم، قال: قد عزمت أن أستخلفك على أولاد الرشيد، فقال الأحمر: لعلي لا أفي بما يحتاجون إليه، فقال الكسائي: إنما يحتاجون في كلّ يوم إلى مسألتين في النحو وثنتين من معاني الشعر وأحرف من اللغة، وأنا ألقنك في كلّ يوم قبل أن تأتيهم ذلك فتتحفظه وتعلّمهم، فقال: نعم، فلما ألحّوا عليه قال: قد وجدت من أرضاه، وإنما أخّرت ذلك حتى وجدته، وأسماه لهم. فقالوا له: إنما اخترت لنا رجلا من رجال النّوبة ولم تأت بأحد متقدّم في العلم، فقال: ما أعرف أحدا في أصحابي مثله في الفهم والصيانة، ولست أرضى لكم غيره، فأدخل الأحمر إلى الدار وفرش له البيت الذي [يؤدّب] فيه بفرش حسن، وكان الخلفاء إذا أدخلوا مؤدّبا إلى أولادهم فجلس أول يوم أمروا بعد قيامه بحمل كلّ ما في المجلس إلى منزله مع ما يوصل به ويوهب له، فلما أراد الأحمر الانصراف إلى منزله دعي له بحمالين فحمل معه ذلك كله مع بزّ كثير، فقال الأحمر: والله ما يسع بيتي هذا، وما لنا إلا غرفة ضيقة، ليس فيها من يحفظه غيري، في بعض الخانات، وإنما يصلح مثل هذا لمن له دار وأهل وكلّ شيء يشاكله، فأمر بشراء دار له وجارية، وحمل على دابة، ووهب له غلام، وأقيم له جار ولمن عنده. فجعل يختلف إلى الكسائي كلّ عشية ويتلقّن ما يحتاج إليه أولاد الرشيد ويغدو عليهم فيلقّنهم، وكان الكسائي يأتيهم في الشهر مرة أو مرتين فيعرضون عليه بحضرة الرشيد ما علّمهم الأحمر، ويرضاه، فلم يزل الأحمر كذلك حتى صار نحويّا وجلّت حاله وعرف بالأدب حتى قدّم على سائر أصحاب الكسائي، ولم يكن له قبل ذلك ذكر ولا يعرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>