للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال عبد الغافر: وكان صديق والدي من البائتين عنده «١» في الأحايين، والمقترحين عليه ما يشتهيه من الطبائخ والمطعومات. سمعته رحمه الله يحكي عن أحواله وتهتكه واشتغاله في جميع الأحوال بما لا يليق بالعلماء والأفاضل، ولكنه كان يحتمل عنه اتقاء لسانه. ومما حكاه لي رحمه الله قال: ما وقع بصري قطّ على شخص إلا تصوّر في قلبي هجاؤه قبل أن أكلّمه وأجربه أو أخبر أحواله. وحكى لي بعض من أثق به أنه قال: لم يفلت أحد من هجائي إلا القاضي الامام صاعد بن محمد رحمه الله، فإني كنت زورت في نفسي أن أهجوه، فحيث تأملت في حسن عبادته وكمال فضله ومرضيّ سيرته استحييت من الله تعالى وتركت ما أجلته في فكري، على أني سمعت فيما قرع سمعي تشبيبا منه بشيء من ذلك عفا الله عنه، ولقد خصّ طائفة من الأكابر والعلماء بوضع التصنيف فيهم ورميهم بما برأهم الله عز وجل عنه. وبالغ في الافحاش، وأغرق في قوس الايحاش، وأظهر النّسخ بين الناس، وأغرب في فنون الهجاء، وأتى بالعبارات الرشيقة والمعاني الصحيحة من حيث الصنعة، وإن كانت عن آخرها أوزارا وآثاما وكذبا وبهتانا. واتفق الأفاضل على أنه أهجى عصره من الفضلاء، وأفتقهم شتما قبيحا تعريضا وتصريحا، وكان يسكن مدرسة السيوري بباب عزرة ويخصّ جماعة سكانها من الأئمة في عصره بالهجاء، وله معهم ثارات وأحوال يطول ذكرها، ثم مع تبحره وانفراده بفنّ الهجاء كان له شعر في الطبقة العليا في المدح والثناء وسائر المعاني، قصائده الغرّ في السادة والأئمة مشهورة، ومقطعاته في الغزل مأثورة، وكان ينسخ كتب الأدب بخطّ مقروء صحيح أحسن النّسخ، ولقد رأيت نسخة من «كتاب يتيمة الدهر» لأبي منصور الثعالبي في خمس مجلدات بخطه المليح بيعت بثلاثين دينارا نيسابورية وكانت تساوي أكثر من ذلك، ولقد كتب نسخة من «غريب الحديث» لأبي سليمان الخطابي وقرأها على جدي الشيخ عبد الغافر بن محمد الفارسي قراءة سماع، وعلى الحاكم الامام أبي سعد ابن دوست قراءة تصحيح وإتقان، أقطع على الله تعالى أن لم يبق من ذلك الكتاب نسخة أبين ولا أملح منها، وهي الآن برسم خزانة الكتب الموضوعة في الجامع القديم موقوفة على المسلمين من

<<  <  ج: ص:  >  >>