للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تردّد في كلام العرب ما يلحق الوحشية من الوجد والناقة إذا فقدت الفصيل، فقال قائلهم [١] :

فما وجدت كوجدي أمّ سقب ... أضلّته فرجّعت الحنينا

وللسائل أن يقول: إن كان الخير لا يريد ربّنا سواه، فالشرّ لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون قد علم به أولا، فإن كان عالما به فلا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون مريدا له أولا، فإن كان مريدا له فكأنه الفاعل، كما أن القائل يقول: قطع الأمير يد السارق، وإن لم يباشر ذلك بنفسه، وإن كان غير مريد فقد جاز عليه ما لا يجوز على أمير مثله في الأرض إنه إذا فعل في ولايته شيء لا يرضاه أنكره وأمر بزواله، وهذه عقدة قد اجتهد المتكلمون في انحلالها فأعوزهم.

وقد ذكرت الأنبياء أنّ البارىء جلّت عظمته رؤوف رحيم، ولو رأف ببني آدم وجب أن يرأف بغيرهم من أصناف الحيوان الذي يجد الألم بأدنى شيء، وقد علم أن الوحش الراتعة يبكر إليها الفارس فيطعن العير أو الأتان، وهنّ ما أسدين إليه ذنبا.

ولأيّ حال استوجب من يفعل بها هذا الرأفة وهي لم تشرب من الماء بذنوب، ولم تجن ما يكتب من الذنوب. وقد رأيت الجيشين المنتسب كلّ واحد منهما إلى الشرع المنفرد، يلتقيان وكلاهما في مدد، ويقتل بينهما آلاف عددا. فهذا محسوب من أي الوجهين؟ فليس عند النظر بهين.

فلما بلغ العبد الضعيف العاجز اختلاف الأقوال وبلغ ثلاثين عاما، سأل ربه إنعاما، ورزقه صوم الدهر، فلم يفطر في السنة ولا الشهر، إلا في العيدين، وصبر على توالي الجديدين، وظنّ اقتناعه بالنبات يثبت له جميل العافية.

وقد علم سيدنا الرئيس الأجلّ المؤيد في الدين ولا ريب أنه قد نظر في الكتب المتقدمة ما حكي عن جالينوس وغيره من اعتقاد يدلّ على الحيرة، وإذا قيل إن البارىء رؤوف رحيم فلم سلّط الأسد على افتراس نسمة إنسية، ليست بالمفسدة ولا القسيّة؟ وكم مات بلدغ الحيات جماعة مشهورة، وسلّط على الطير الراضية بلقط الحبة البازي والصقر، وإن القطاة لتدع فراخها ظماء وتبتكر لترد ماء تحمله إليها في


[١] هو عمرو بن كلثوم، والبيت من معلقته.

<<  <  ج: ص:  >  >>