للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحقيقة على لسان حميمك ووليك، وتؤمن بأنك أكثر غنى بملك الحقيقة منك بمال قارون وجاه الإسكندر وملك قيصر. هذه مكانة قلّ من يصل إليها إلا من هدى الله قلبه للحقّ. أمّا سائر الناس فتعميهم العاجلة من مال ونشب، ويعميهم الاستمتاع باللحظة التي يعيشون فيها، عن الارتفاع إلى هذه المعاني. وهم في سبيل هذه العاجلة واقتناص تلك اللحظة يحاربون ويقاتلون، لا يحول شيء دون أن ينشب أحدهم أظفاره وأنيابه في عنق الحقّ والخير والفضيلة، وأن يدوس تحت أقدام دنسه أطهر معاني الكمال. ما بالك بهؤلاء العرب من قريش وهم يرون محمدا يزداد أنصاره كل يوم عددا، ويخشون يوما ما يكون فيه للحق الذي يعلنه السلطان عليهم وعلى من يدين لهم بالطاعة، ويمتدّ من وراء ذلك إلى العرب في مختلف أنحاء الجزيرة! دون هذا قطّ الرقاب إذا استطاعوا. قطّها. ودون هذا الدعاية والمقاطعة والحصار والتعذيب والتنكيل يصبونه على هام خصومهم صبّا.

[الفزع من البعث والحساب]

وسبب ثالث منع قريشا من متابعة محمد. ذلك فزعهم من البعث ومن عذاب جهنم يوم الحساب؛ فقد رأيتهم قوما مكبّين على اللهو مسرفين فيه، ويتّخذون من التجارة ومن الرّبا إليه الوسيلة. ولا يرى الغنيّ منهم في شيء من الأشياء رذيلة يتجافى عنها؛ ثم كان لهم من التقرب إلى أصنامهم ما يزعمون أنه يكفّر عن سيئاتهم وذنوبهم. بحسبه الرجل أن يضرب القداح عند هبل قبل أن يقدم على أمر ليكون ما تشير به عليه القداح أمر هبل. وبحسبه أن ينحر للأصنام لتمحو الأصنام سيئاته وذنوبه! هو في حلّ من أن يقتل وينهب ويرتكب الفحشاء ولا يعفّ عن الخنا ما دام قديرا على رشوة هذه الآلهة بالقرابين والنحور! وهذا هو محمد يعلن إليهم في آيات مرهبة تنخلع من هولها القلوب وتضطرب الأفئدة أن ربّهم لهم بالمرصاد، وأنهم مبعوثون في اليوم الآخر خلقا جديدا، وأن أعمالهم هي وحدها الشفيع لهم. (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) «١» . والصاخة تجيء: (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً. يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ.

وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ. كَلَّا إِنَّها لَظى. نَزَّاعَةً لِلشَّوى.

تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى. وَجَمَعَ فَأَوْعى) «٢» . (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ. قُطُوفُها دانِيَةٌ.

كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ. يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ. ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ. خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ. إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ. فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ. وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) «٣» .

أتلوت هذا! أسمعته! ألم يأخذك الهول ويتولك الفزع! وليس هذا إلا قليلا مما كان ينذر محمد به قومه. وأنت تتلوه اليوم وقد تلوته وسمعته من قبل مرّات. وأنت تعيد إلى ذهنك إذ تتلوه ما في القرآن من تصوير جهنم: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) «٤» ، (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) «٥» .


(١) سورة عبس الآيات من ٣٣ إلى ٤٢.
(٢) سورة المعارج الآيات من ٨ إلى ١٨.
(٣) سورة الحاقة الآيات من ١٨ إلى ٣٧.
(٤) سورة ق آية ٣٠.
(٥) سورة النساء آية ٥٦.

<<  <   >  >>